«الحضور كِيان، وبفضل وجوده نفسه يتَّسم بسلوك قائم على الفَهم تجاه ذلك الوجود. وفي قولنا هذا نلفت النظر إلى المفهوم الصوري للوجود؛ فالحضور موجود. أضِف إلى ذلك أن الحضور كِيانٌ أجد نفسي فيه في كل حالة، وكينونتي تنتمي إلى أي حضور موجود، وهي تنتمي إليه باعتبارها شرطَ تحقيق الأصالة أو عدم الأصالة.»يتَّسم أسلوب الفيلسوف الألماني «مارتن هايديجر» بالغموض والغرابة اللُّغوية، وهو ما يفسِّره الفيلسوف «مارك راذول» بأن «هايديجر» يحاول قولَ شيء ليس في مقدور اللغة العادية أن تفعله، أَلَا وهو الحديث عن المعالم الأساسية لوجودنا. كما يفسِّر الدكتور «محمد عناني» تلك الصعوبة بأنها تعود إلى تفرُّد رؤى «هايديجر»، وأن فلسفته كامنةٌ في مصطلحاته؛ فإذا أمكنَنا فَهم المصطلح تمكَّنَّا من فَهم فِكره، ومن هنا جاءت فكرة هذا الكتاب، وهي محاوَلة فَهم مصطلحات «هايديجر» للوُلوج إلى فلسفته الوجودية، القائمة على فَهم حقيقة الوجود البشري. وقد قسَّم «عناني» كتابه إلى قسمَين: الأول يتناول بعضَ المفاهيم المهمة المتعلِّقة بأسلوب «هايديجر» وفلسفته؛ مثل: الفَهم، والغموض، والحضور، فضلًا عن حياته ونشأته. أمَّا الثاني، فهو قاموسٌ فلسفي يضم جميعَ مصطلحات فلسفته مصحوبةً بشرح لها، حتى يَسهل فَهمها وفَهم دلالاتها.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. رحَل الدكتور «محمد عناني» عن دُنيانا في الثالث من يناير عام ٢٠٢٣م، عن عمرٍ يناهز ٨٤ عامًا، تاركًا خلفه إرثًا عظيمًا من الأعمال المترجَمة والمؤلَّفة.