بَعدَ مَوتِ «أخيل» وانتِصارِ الإغْريقِ في حَربِهم على «طروادة»، عَادَ المُنتصِرونَ بغَنيمةٍ مِنَ الأَسْرى اقتَادُوهم عَبيدًا، وكانَتِ المَلِكةُ «أندروماك» أَشهَرَ أولئكَ الأَسْرى وأهَمَّ غَنائِمِ تلكَ الحَرب. مَلكةٌ صُيِّرتْ بحُكمِ الحَربِ أَمَة، وفتنةٌ لم تنتهِ بانتِصارٍ وَحِيد، بل نَتَجَ عنها سِلسلةٌ مِنَ الحُروبِ الخَفيَّة، ستخُوضُها «أندروماك» وَحْدَها في البِلادِ الغَرِيبة، مُكابِدةً أَسْرَها الذي سيَّجتْه أرواحٌ تُحِب، وقُلوبٌ يَتنازَعُها الهَوَى. مِن بَينِ عَددٍ مِنَ الكُتَّاب، استَلهَمُوا كِتاباتِهِمُ الأدَبيةَ مِنَ الميثولوجيا اليُونانيَّةِ بأسَاطِيرِها وشُخُوصِها الغَنِيَّة، يَأتِي «راسين» بمَسرَحيتِه «أندروماك» في مَصافِّ أُدباءِ القَرنِ السَّابِعَ عَشَرَ ممَّنِ استَطاعُوا صِياغةَ تِلكَ الحَالةِ السِّحرِيةِ ببرَاعَة، في تراجيديا شِعْرِية، تَرجمَها عَميدُ الأَدبِ العَربيِّ «طه حسين» ببرَاعَتِه المَعهُودةِ في الصِّياغةِ والوَصْف، وكَأنَّكَ حَاضرٌ في حُجُراتِ «اللوفر»، تُشاهِدُ العَرضَ رأْيَ العَيْن، وتُرافِقُ أبطالَهُ إلى عَالَمٍ آخَر.
جان راسين: أديبٌ فرنسي، له مسرحيات وقصائد جَعلتْ منه أحدَ أهم الكُتَّاب الفرنسيين في القرن السابع عشر، وواحدًا من أهم أُدباء أوروبا. وُلِد جان راسين عامَ ١٦٣٩م في لافرتة ميلون بفرنسا، لأُسرةٍ متوسطة مُتديِّنة، تُوفِّي والداه وهو في الثالثة من عُمره فتكفَّلَ برعايته جدُّه لأبيه. وحين أكمَلَ السادسةَ عشرة الْتَحَق بالمدرسة الصغيرة التي كان يُدِيرها المتوحدون، ليَدرس فيها التعليم الديني واليونانية، ثم تعلَّمَ الفلسفة والأدب في كلية آركور في باريس، وأُعجِب بسلاسل سوفوكليس ويوريبيديس الأدبية فقام بترجمةِ بعضها، ليقوم بعد ذلك بكتابة مسرحيةٍ لعَرْضها على موليير، الذي أعطاه مالًا كوسيلةٍ للتشجيع، على الرغم من كونها لا تَستحقُّ الإخراج. قرَّر راسين أن يحترف الكتابةَ ويتفرَّغ للأدب؛ ممَّا أغضب عائلته، خاصةً أنه قد وصل إلى عِلْمهم الكثيرُ من حكايات غرامياته المتعددة، فأرغموه على الذهاب إلى مدينة أوزيس التي تقع في جنوب فرنسا، ليعمل مساعدًا لعمِّه الذي كان كاهنًا بكاتدرائيةٍ هناك. ولكن بعد فترةٍ وجيزة تَبيَّنَ أن راسين لا يمكن أن يستمر في الحياة الكهنوتية؛ فعاد إلى باريس. وفي باريس نشر شِعرًا أُعجِب به الملكُ فأجزَلَ له العطاء، ثم تعاوَنَ مع موليير الذي أخرَجَ له مسرحيتَه الثانية «طيبة»، ولكن بعد أربعةِ عروض فقط اضطُرَّ إلى إيقافها؛ لأنها قد اشتُهِرت بدرجةٍ أغضبتْ عائلةَ راسين. ثم قدَّمَت فرقة موليير مسرحيةَ راسين الثالثة «الإسكندر»، وقد لاقَتْ قَبولًا ممتازًا لدى الجماهير الفرنسية. بلغ جان راسين قمةَ أسلوبه المسرحي في رائعته «أندروماك»، التي وضعتْه في مَرْتبةٍ متميزة، ليتحدَّى موليير بمسرحية «المتخاصمون». ومن أعماله الأخرى: «بريتانيكوس»، و«مثريداته»، و«فيدر»، و«أتالي». اتَّصفَ أدب راسين بالرومانسية، على الرغم من أنه قد يُصنَّف ضمن الأدب الكلاسيكي، وطغَتِ العاطفة في أحيانٍ كثيرة على أدبه، بينما احتلَّ العقل مكانةً أقل، فكانت مصطلحاتٌ مثل الأخلاق وحُب الوطن والشرف ترتبط بشكلٍ كبير في كتاباته بالحب والعواطف. كما جنح إلى الهَزلية في حواراتِ شخصياتِ مسرحياته. تُوفِّي جان راسين في باريس عامَ ١٦٩٩م، مخلِّفًا أدبًا تَعتبره فرنسا من أعظم ما كُتِب في الدراما الكلاسيكية الحديثة.