«مرنوش (صائحًا): كفى هُراءً! كفى هُراءً! وَلَدي قد مات ولا شيءَ يربطني الآن بهذا العالَم! هذا العالَم المخيف. نعم صَدَق يمليخا .. هذه الحياة الجديدة لا مكانَ لنا فيها، وإنَّ هذه المخلوقات لا تفهمنا ولا نفهمها. هؤلاء الناس غُرباء عنَّا، ولا تستطيع هذه الثيابُ التي نُحاكيهم بها أن تجعلنا منهم.»افتتح «توفيق الحكيم» بتلك المسرحية مشروعَه المسرحي الكبير، مستمِدًّا موضوعَها من التراث الديني حول قصة أصحاب الكهف الذين فرُّوا إليه هربًا من الاضطهاد الديني، فغلبهم النعاس، وحين استيقظوا ظنُّوا أنهم ما لبثوا إلا يومًا أو بعضَ يوم، لكنهم يُفاجَئون بأنهم مكثوا في ذلك الكهف ثلاثمائة سنة. وقد تناول «الحكيم» تلك القصةَ برؤية فلسفية واجتماعية عميقة، تمحورَت حول سُلطة الزمن وما يُمكِن أن تفعله بالإنسان، وذلك من خلال شخصيات المسرحية الثلاث؛ «يمليخا» الراعي الذي يخرج بكلبه «قطمير» في شوارع المدينة، في حالةِ ذهولٍ من التغييرات التي طرأت على الحياة، و«مرنوش» الذي يذهب إلى زوجتِه وابنه فيُصدَم بوفاتهما، و«مشيلينا» الذي يرى حبيبتَه «بريسكا» فيَطمئِنُّ قلبه، لكنه يُفاجَأ بأن مَن يراها هي حفيدتها وشبيهتُها. كيف سيواجِهون ما حدث؟ وما مصيرُهم؟ هذا ما سنعرفه في تلك المسرحية البديعة.
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.