«كمْ يتمنَّى پونتيلا أنْ يقطعَ معكمُ الغابَ ويُنقِّيَ الحقولَ مِنَ الأحجارِ ويقودَ الجرَّارَ بنفسِه، ولكنْ هل يتركونه يفعلُ ذلك؟ لقد وَضعوا منذُ البدايةِ حولَ رقبتي ياقةً غليظة، أَكلتْ ذقني مرتَين. لا يليقُ ببابا أنْ يحرث، لا يليقُ ببابا أنْ يغمزَ البنات، لا يليقُ ببابا أنْ يشربَ القهوةَ مع العُمَّال! أمَّا الآنَ فلم يَعُدْ يليقُ ببابا ألَّا يليقَ به شيء.» في عصورِ الإقطاعِ زادتِ الفوارقُ بينَ الطبقاتِ واستقرَّ التمييزُ داخلَ العقول، ولم يكنْ أحدٌ يتوقَّعُ أنْ يكونَ للخمرِ دورٌ في إذابةِ هذهِ الفوارقِ إلا بعدَ أنْ شُوهِدَ السيدُ پونتيلا ثَمِلًا؛ فكأنَّ الخمرَ بالنسبةِ إليه غطاءٌ لِوعاءَيْن: العقلِ والقلب؛ فإنْ حَجبَتْ أحدَهما كَشفَتْ عمَّا يُخفيهِ الآخَر، وأَظهرَتْ جوهرَ الإنسانِ الحقيقيَّ المختبئَ خلفَ أستارِ المجتمعِ البالية؛ فخلْفَ الإقطاعيِّ المتوحشِ إنسانٌ نبيل، وأيضًا خلْفَ التابعِ المُطيعِ نجِدُ الناقدَ الموضوعيَّ صاحِبَ البصيرةِ النافذة. ومن ثَمَّ تظهرُ المُفارقاتُ في مواقفَ وأحداثٍ صِيغَتْ ببراعةٍ مِنَ المسرحيِّ الألمانيِّ الفذِّ «برتولد برشت» الذي قدَّمَ أدبًا مسرحيًّا شعبيًّا فريدًا مزجَ فيه بينَ البساطةِ والشاعريةِ والواقعية، مُستعينًا بالغناءِ والرمز، مُبتعدًا عن السطحيةِ والتوجيهِ المباشِر؛ مما أكسبَ مسرحيتَهُ شهرةً عالَمية.
برتولد برشت: كاتب ومخرج مسرحي وشاعر ألماني، ومن أهم كُتاب المسرح في القرن العشرين، عُرف برؤيته المختلفة للعمل المسرحي في التأليف وطريقة العرض، ومعارضته الأفكارَ النازية التي كانت منتشرة آنذاك. وُلد «برتولد برشت» في ١٠ فبراير ١٨٩٨ بمدينة أوجسبورج لأب بروتستانتي وأم كاثوليكية. كتب الشعر والنثر في المرحلة الثانوية، والتحق بكلية الطب والعلوم الطبيعية بميونخ عام ١٩١٧، بجانب حضوره محاضرات في الأدب والفلسفة وتاريخ الفن. انتقل إلى ميونخ ليعمل مُشاورًا مسرحيًّا في «مسرح الحجرة»، وبعدها انتقل إلى برلين ليبدأ مسيرة الإخراج والكتابة المسرحية، واضطُر إلى الهروب إلى الدنمارك بعد تولِّي «هتلر» السلطة عام ١٩٣٣ بسبب أفكاره المعارضة للنازية، وتوالى الهروب بتوالي توغُّل القوات الألمانية حتى وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم عاد إلى وطنه عام ١٩٤٨ وتولى إدارة المسرح الألماني في برلين الشرقية، وفي العام التالي أسَّس مسرح «برلينر إنسامبل» (فرقة برلين) بمساعدة زوجته الممثلة «هيلينا فايجل»، وقدَّم من خلاله أعماله التي تناولت تأثُّر الضمير الإنساني بالظروف الاجتماعية، والقهر الجمعي، ودور السلطة في تقرير المصائر، وذلك كله في إطار حبكات درامية لا تخلو من سخرية كوميدية. حصل على «الجائزة الوطنية» من ألمانيا الشرقية عام ١٩٥١، وعلى «جائزة لينين الدولية للسلام» عام ١٩٥٤، وكان عضوًا في أكاديمية الفنون في برلين، ثم تولى رئاستها حتى وفاته، وترأس أيضًا «نادي القلم» في الألمانيتَين. تُوفِّي «برتولد برشت» في برلين في ١٤ أغسطس عام ١٩٥٦.