إنَّ الجَراءةَ اللازِمةَ لإِشعَالِ فَتيلِ ثَورةٍ عِلمِيةٍ حَقيقِيةٍ تَطالُ مَفاهِيمَ أَساسِيةً انْصاعَ لها العالَمُ لِعُقُود، وتُغيِّرُ جِذريًّا كُلَّ ما سَبقَها، لا تَتأتَّى بمُجرَّدِ الاجْتِهادِ فَحسْب، فالقُدرةُ عَلى تَحوِيلِ المَعرِفةِ إِلى مادَّةٍ للابتِكَار تَحتاجُ إِلى بَصِيرةٍ نَافِذةٍ تُقوِّي دَعائِمَها الثِّقة، وتُتوِّجُها لَمحةُ الإِبدَاع. وبِرغْمِ ما يُواجِهُه أَربابُ هَذِه الثَّوراتِ مِن رَفضٍ تامٍّ وهُجومٍ شَرِس، فإنَّ العالَمَ يُدرِكُ لاحِقًا أَهمِّيةَ لحَظاتِ التَّنوِيرِ تِلك، ويَمنحُها الخُلودَ، سواءٌ اختَلفَ مَعَها أَو اتَّفَق. هَكذَا أَخذَتْ نَظرِيةُ «النشوء والارتقاء» ﻟ «داروين» مَكانَها فِي مَصافِّ الثَّوراتِ العِلمِيةِ الخَالِدة، وبِرغْمِ ما أَثارَتْه وتُثِيرُه مِنَ الجَدلِ الفَلسَفيِّ والدِّينيِّ حتى يَومِنا هَذا، فإنَّ مَوقِعَها فِي الأَوسَاطِ العِلمِيةِ والفِكرِية يُثير الفُضولَ لمَعرِفةِ المَزِيدِ عَن هَذِه النَّظرِيةِ التي أَحدثَتْ هِزَّةً فِي عُمقِ نَظرةِ الإِنْسانِ إِلى هُويَّتِه، وعَلاقَتِه بالطَّبِيعةِ والكَوْن.
تشارلز داروين: عالِمُ أحياء وطبيعة، وجيولوجيٌّ إنجليزي ذائعُ الصيت، يُوصَف إلى جانبِ كلٍّ مِن «كوبرنيكوس» و«فرويد» بأنه أحدُ أكبر ثلاثة طعنوا البشريةَ في كبريائها. دشَّنَ ما بات بعدُ يُعرَف ﺑ «نظرية التطور»، التي أحدثَتْ ثورةً معرفية ونقلةً نوعية في فهمنا للتاريخ الطبيعي؛ حيث تبرهن النظريةُ على أن السجلَّ الأحفوريَّ للكائنات الحية — على اختلافِ أنواعها، ومنها الإنسان — يرجعُ إلى سلفٍ واحدٍ مُشترَك؛ وهي بهذا المعنى تُعتبَر أحدَ أكثر النظريَّات تأثيرًا وإثارةً للجدل في العصر الحديث. وُلِد تشارلز روبرت داروين في الثاني عشر من شهر فبراير عامَ ١٨٠٩م. كان الخامسَ من بين ستة أبناء لعائلةٍ ثرية. عمل أبوه «روبرت داروين» طبيبًا وخبيرًا ماليًّا، وكان جَدُّه «إراسموس داروين» عالِمَ نباتاتٍ مشهورًا. تُوفِّيَتْ والدته عامَ ١٨١٧م، ولم يَبلُغ بعدُ سنَّ التاسعة. تنتمي عائلته إلى طائفةِ التوحيديِّين المسيحية، وهي طائفةٌ تنتمي إلى الكنيسة الإنجيلية. درس داروين الطب، لكنه لم يَجِد في نفسه ميلًا إليه، وهو الأمر الذي أزعَجَ والده؛ مما اضطره لإرسال ابنه إلى كلية المسيح بكامبريدج للحصول على بكالوريا الفنون، كخطوةٍ تمهيدية ليكون كاهنًا مسيحيًّا. كان داروين أثناءَ فترة دراسته للفنون يَهوَى ركوبَ الخيل والرِّمايةَ وجمْعَ الخنافس. تعرَّفَ خلالَ تلك الفترة إلى أستاذِ علمِ النباتات «جون ستيفنس هنسلو»، الذي أوصى بأن يكون داروين على متن سفينة «بيجل» التابعة للبحرية الملكية البريطانية، وذلك بعد تخرُّجه في كلية الفنون عامَ ١٨٣١م. أقلعَتْ سفينة بيجل في السابع والعشرين من شهر ديسمبر عامَ ١٨٣١م من ميناء «ديفون» الإنجليزي في مهمةٍ علميةٍ حولَ العالَم، هدفُها الأساسي مسْحُ المناطق المجهولة بنصف الكرة الجنوبي. استغرقَتِ الرحلةُ زُهاءَ خمسِ سنوات، قضى خلالَها داروين معظمَ وقته في المسح الجيولوجي واستكشاف التاريخ الطبيعي من خلال جمْعِ العيِّنات وتدوينِ الملاحظات والتخمينات النظرية ليُرسِلها إلى جامعة كامبريدج. بدأ داروين في نشر مقالاته وأبحاثه بكثافةٍ أثناءَ هذه الرحلة وبعدَها. حصل على زمالة الجمعية الملكية عامَ ١٨٣٩م، وتقلَّدَ وسامَ الجمعية الملكية عامَ ١٨٥٣م، كذلك حصل على «ميدالية والستون»، وهي أعلى جائزة علميَّة تمنحها الجمعية الجيولوجية في لندن وذلك في عام ١٨٥٩م، وهو العام نفسه الذي أصدَرَ فيه سِفْره «أصل الأنواع»، كذلك منحَتْه جامعة كامبريدج الدكتوراه الفخرية عامَ ١٨٧٧م. تُوفِّي داروين في التاسع عشر من أبريل عامَ ١٨٨٢م عن ثلاثة وسبعين عامًا، ودُفِن إلى جانب إسحاق نيوتن، تاركًا وراءَه عملًا علميًّا عظيمًا غيَّرَ وجهَ التاريخ البشري.