حتَّى القرنِ العاشِرِ الميلاديِّ كانَ المَفْهومُ السائِدُ عنِ الإبصارِ هو أنَّ العينَ تُرسِلُ أشعةً خاصةً تَسقطُ على الأَجْسامِ فتُسبِّبُ رُؤيتَها، وهو الأمرُ الذي أكَّدَ على بُطلانِه عمليًّا وبالأدلةِ الدامغةِ الفيزيائيُّ العربيُّ المَوْسوعيُّ «الحسَنُ بن الهيثم» الذي لم يَقتصِرْ شغَفُه على دراسةِ الظَّواهرِ الفيزيائيَّة، بل كانتْ له إسهاماتٌ قيِّمةٌ في علومِ الجبْرِ والهندسةِ والطبِّ البَشري، كما كانَ من أوائلِ الذين فكَّروا في بناءِ خزَّانٍ لمِياهِ نهرِ النيلِ يَحفظُ القُرى المِصْريةَ من خطَرِ الفيضانِ ويوفِّرُ للمُزارِعِينَ المياهَ الكافيةَ للزراعةِ على مَدارِ العام. وعلى تعدُّدِ ما قدَّمَه «ابنُ الهيثم» من أبحاثٍ في العلوم، فإنَّ أعمالَه في مَجالِ البَصريَّاتِ (أو ما يُسمَّى اليومَ ﺑ «فِيزياءِ الضَّوْء») تظلُّ دُرَّةَ التاجِ فيما ترَكَ هذا العالِمُ الفذُّ ابنُ مَدينةِ «البَصْرة» العِراقيَّة؛ إحدى الحواضِرِ العِلْميَّةِ الزاهرةِ في زمنِ الخِلافةِ العباسيَّة.
الحسن بن الهيثم: أحدُ أشهرِ عُلماءِ المسلِمِين، برَعَ في علومِ الفَلكِ والطبِّ والهندسة، ولُقِّبَ ﺑ «بطليموس الثاني». وُلِدَ «الحسَن بن الهيثمِ أبو علي البصري» عامَ ٣٥٤ﻫ/٩٦٩م بالبصرة، وفيها تلقَّى علومَه، وعاصَرَ «الفارابي» و«الكندي» و«الخوارزمي» و«الرازي». عُرِفَ ابن الهيثم بزهْدِه وعكوفِه على العلمِ دراسةً وتدريسًا، وقد أقامَ بالشام، واشتغلَ بالتصنيفِ والتأليفِ ونسْخِ الكُتب، ثُم ارتحلَ إلى مِصْرَ فأُعجِبَ به «الحاكِمُ بأمرِ الله» وبعِلمِه وأرادَ استعمالَه في ضبطِ منسوبِ النيل، فاقترَحَ ابنُ الهيثمِ إقامةَ سَد، لكنْ تبيَّنَ استحالة ذلك، فولَّاه الحاكِمُ بعضَ الدَّواوين، فقبِلَها على مَضضٍ خشيةً مِنَ الحاكِمِ لما رأى منه غِلظةً مع مَن يَعصيه، فاصطنَعَ الجنونَ فجرَّدَه الحاكِمُ من أموالِه وعزَلَه ببيتٍ عنِ الناس، وظلَّ في بيتِه حتى وفاةِ الحاكِم، فخرَجَ ووقَفَ نفسَه للعلمِ والأدب. ولابنِ الهيثمِ جهدٌ وفيرٌ في علومٍ كثيرةٍ حتى وصَلَ خبَرُه لعلماءِ أوروبا ولقَّبُوه ﺑ «الهازن»، وذلك عن طريقِ كتابِه المشهورِ ﺑ «المناظِر» الذي تُرجِمَ إلى اللاتينية، وله أيضًا «كَيْفية الإظلال»، و«مِساحة المجسمِ المتكافِئ»، و«شَرْح قانونِ إقليدس»، و«المَرايا المحرقة»، و«ارتفاعات الكواكِب»، وله ما يَقربُ من الأربعةِ والعشرينَ كِتابًا في عِلمِ البَصريَّات. تُوفِّيَ ابنُ الهيثمِ بالقاهرةِ عامَ ٤٣٠ﻫ.