«عندما حلَّقَت بي الطائرة المصرية أول مرة فوق مدينة لندن، أفقتُ من الغفوة التي غلبَتني بعد سهر الليلة السابقة، وفتحتُ عيني لأرى من النافذة الضيقة سحاباتٍ قليلة، خفيفةً وشفَّافة ومتباعِدة، يَسطَع عليها ضوء الشمس، ويَلُوح فيما بينها على الأرض ما يشبه البستانَ الكثيف، تقوم في أرجائه بيوتٌ منخفضة متناثِرة ضئيلةُ الجِرْم، يضرب لونُها إلى الحُمرة، فتصوَّرتُ أننا ما زلنا في الريف بعيدًا عن قلب المدينة.»تتحوَّل الغُربة إلى واحة عندما تلتقي فيها بأناسٍ يَنفُون عنها صفة الغُربة، فتشعر أنك في مكانك، ويصبح الانتماء إلى أشخاصٍ بعينهم هو الدفء الذي يُذِيب ثلجَ البلاد الباردة. كانت لندن على مَدارِ عشرِ سنواتٍ واحةً أخرى في فضاءِ «عناني» الشاسع، جاء إليها عام ١٩٦٥م طالبًا للعلم، ثم سرعانَ ما احتوَته المدينة ومثَّلت نقطةً مهمة في مَسيرة حياته الإنسانية والأدبية، فأفرد لها الجزءَ الثاني من سِيرته الذاتية التي جاءت حافلةً بتفاصيل حياةِ المصريين في إنجلترا، والشخصياتِ التي قابَلها هناك مثل «الطيب صالح» و«سمير سرحان»، والصعوباتِ التي واجهَته وتغلُّبِه عليها، وانفتاحِه على ثقافاتٍ مختلفة، وتَلقِّيه أخبارَ الصراع العربي الإسرائيلي، وأثَر كل ذلك عليه، مع الانتباه إلى سِمات المجتمع الإنجليزي، والتحوُّلات التي شَهِدها خلال فترة الستينيات، والطبيعة التي تميَّزت بها لندن، ورحلته إلى الريف الإنجليزي.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. رحَل الدكتور «محمد عناني» عن دُنيانا في الثالث من يناير عام ٢٠٢٣م، عن عمرٍ يناهز ٨٤ عامًا، تاركًا خلفه إرثًا عظيمًا من الأعمال المترجَمة والمؤلَّفة.