«الزمن لا يتوقَّف، والدائرة صورة الخلود، والخلود في الأرض وَهْم، ولكننا ندور في دوائر، ونستقي من الدائرة معنى الاستمرار؛ فعندما يعود الربيع يُشرِق الأمل من جديد في كل نفس، وعندما يُصبح الصباح يَصحو الأمل، ونتطلَّع إلى تباشير النور في الشرق فنَشهد ميلاد الغد الذي أصبح يومًا جديدًا، ولكننا لا نطرح مع الأمس الذاهب أثقالَه، ولا نتحرَّر من قيود الزمن أبدًا، بل نُواجه المستقبل بقلبِ الماضي وروحه.»لوحات رُسمَت بريشة الزمن، يستعيدها «محمد عناني» بعد أن بلَغ سن التقاعد، ليجدها لا تزال نابضة بالحياة، وهي تمثِّل ذكرياتِ جيلٍ بأكمله من الأساتذة الذين أعقبوا جيلَ الروَّاد في الآداب والفنون، وتهيَّأ لهم ما لم يتهيَّأ لأسلافهم من معارف جديدة. ولا تلتزم هذه الواحات بالتسلسل الزمني؛ إذ يَنتقل فيها «عناني» بحُرية بين الماضي والحاضر؛ فمنها ذكريات من الماضي البعيد، وأخرى لا يزال صداها القريب يرنُّ في الآذان. وهي مُقسَّمة إلى مجموعات، كل مجموعة منها تتضمَّن حكاياتٍ تَتشابه في الفكرة؛ فبعضها يتناول مفهوم الأقنعة وتغلغُله في حياتنا، وبعضها عن التفكير بمنطق الأبيض والأسود، وغيرها من الحكايات التي تَحمل مفهومًا أوسعَ للحياة والزمن والوعي.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. رحَل الدكتور «محمد عناني» عن دُنيانا في الثالث من يناير عام ٢٠٢٣م، عن عمرٍ يناهز ٨٤ عامًا، تاركًا خلفه إرثًا عظيمًا من الأعمال المترجَمة والمؤلَّفة.