«أنا دهِشٌ لأن هذه التفاصيل تشغل مكانًا واضحًا وثابتًا في ذاكرتي، ودهِشٌ لأنني أُثبتها على الورق، وذلك — فيما يبدو — دون مبرِّر، ولكنها تنتمي إلى ساعاتي الأولى في مصر، والتي لا تزيد على مائة، والتي كانت مشحونة بلقاءات وأحاديث ومشاعر يمكِن أن تملأ كتابًا كاملًا.»ما زال الأديب «محمد عناني» يصطحبنا في واحاته الخضراء الوارِفة الظِّلال، لكن هذه المرةَ في مصر، بعدَ عودته من لندن في الربع الأخير من القرن العشرين، فيجعل من الزمن البطلَ الأول فيها؛ فالإحساسُ به وسيلةُ كلِّ قلبٍ حي للإحساس بالوجود المُطلَق، الوجودِ الذي يتجاوز البدايات والنهايات، ويربط كل حادث في النفس بوجودِ النفس ذاتها. وكانت الذاكرة هي زاد «عناني» الأول في استعادة الزمن، مستعينًا بمفكِّرته التي يُسجِّل فيها الأحداث البارزة، والخطابات المتبادَلة مع الأصدقاء، وقُصاصات الصحف. وكما كان الفرح والسرور يغمُر واحاته في أحيانٍ كثيرة، كان للأحزان والآلام أيضًا نصيبٌ فيها لا بأسَ به، فجاءت الواحات مصريةً خالصة تَمُوج بما يَمُوج به المجتمع المصري آنذاك، وتؤرِّخ للخاصِّ والعامِّ في حياة «عناني» الإنسان والأديب.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. رحَل الدكتور «محمد عناني» عن دُنيانا في الثالث من يناير عام ٢٠٢٣م، عن عمرٍ يناهز ٨٤ عامًا، تاركًا خلفه إرثًا عظيمًا من الأعمال المترجَمة والمؤلَّفة.