«كانت العودة إلى رشيد عودةً إلى الطبيعة، فعدتُ إلى ارتداء الجلباب، وتحرَّرتُ من الملابس المدرسية، وعدتُ إلى أقراني أحدِّثهم عن الإسكندرية وهم يَدهشون لما أحكيه، وكان لدينا زميلٌ جديد يشاركنا اللعب بالكرة، ولكنه من القاهرة، وفَدَ إلى رشيد بسبب انتقال والده إلى وظيفةٍ حكومية في البلد. كان كلما ذكرتُ شيئًا عن الإسكندرية، يُعلِّق قائلًا: هذا لا شيء إذا قُورِن بالقاهرة!»في رشيد، حيث التقاءُ النهر والبحر، وحيث غابات النخيل والأرض الخضراء والطيور المهاجِرة، وُلد وتَرعرَع الأديب والمترجِم «محمد عناني»، فكانت واحةً فسيحة قضى فيها طفولتَه وصِباه، وشُكِّلت فيها ذائقته، وأصبحَت جزءًا أصيلًا من تكوينه الشخصي، فكانت أولَ ما بدأ به سيرتَه الذاتية؛ فروى لنا عن منزل «عناني»، ودائرة الأرز، وكُتَّاب الحكيمة، وأغاني «محمد عبد الوهاب»، وعن والده وولَعِه بالطيور، ومكتبته التي حوَت أمهاتِ الكتب التراثية، وتفتَّحَت عيناه عليها … وغيرها من ذكريات الطفولة المحفورة في الذاكرة، والعصيَّة على النسيان. ثم يروي لنا عن انتقاله إلى واحة جديدة هي الإسكندرية، وعن مرحلة الثانوية، واتِّساع أفُقه، وانفتاحه على سِمات المدينة، واطِّلاعه على صُنوف المعرفة المختلفة، والمحاوَلات الأولى للكتابة. ثم ينتقل إلى الواحة الكبرى والحُلم الكبير؛ القاهرة، والجامعة، وبداية مرحلة جديدة، هي مرحلة النضج الإبداعي التي تَبلوَرت فيها سماتُ المترجِم والأديب.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. رحَل الدكتور «محمد عناني» عن دُنيانا في الثالث من يناير عام ٢٠٢٣م، عن عمرٍ يناهز ٨٤ عامًا، تاركًا خلفه إرثًا عظيمًا من الأعمال المترجَمة والمؤلَّفة.