يقدِّمُ لنا المستشرقُ الفرنسيُّ «كارا دو فو» بين دفَّتَي هذا الكتابِ دراسةً وافيةً حولَ سيرةِ حياةِ «ابن سينا» — أو «الشيخِ الرئيس» كما لُقِّبَ — أحدِ أهمِّ العلماءِ الموسوعيِّين في الحضارةِ الإسلاميةِ الذين بَرزُوا في القرنِ الخامسِ الهجري، والذين خُلِّدت أسماؤُهم وإسهاماتُهم وإبداعاتُهم الفريدةُ عبرَ الأزمان. يحدِّثُنا المؤلِّفُ عن نشأةِ «الرئيس»، ورحلتِه الطويلةِ التي خاضَها في طلبِ العلم، ونبوغِه في العديدِ من العلومِ والمَعارف، لا سِيما الفقهُ والأدبُ والفلسفةُ والطبُّ والرياضياتُ وغيرُها. وقد زخرتِ المكتبةُ العربيةُ بمؤلَّفاتِه النفيسةِ التي نُقِلت إلى العديدِ من اللغات، وكانت له تصوُّراتُه التي كانت مُغايِرةً في بعضِ الأحيانِ لأفكارِ علماءِ وفلاسفةِ عصرِه، وخاصةً فيما يتعلَّقُ بالنواحي النفسيةِ والطبيعيةِ والعقائدية، فضلًا عن بحوثِه واكتشافاتِه العلمية، التي لا تزالُ مَرجعًا مهمًّا ونبراسًا يُنيرُ عقولَ الكثيرينَ من المعاصِرين شرقًا وغربًا.
البارون برنارد كارا دو فو: مستشرقٌ وباحثٌ وكاتبٌ ومترجمٌ فرنسي، وُلِد عامَ ١٨٦٧م لأسرةٍ أرستقراطية. اهتمَّ بدراسةِ اللغاتِ الشرقيةِ وخاصةً اللغةَ العربية، والْتَحقَ بالمعهدِ الكاثوليكيِّ في «باريس»؛ حيث أشبعَ فضولَه لدراسةِ الإسلامِ والمسيحيةِ في الشرقِ الأوسط، ولم يَقتصرِ الأمرُ على تعلُّمِه العربيةَ بل قامَ بتدريسِها بعدما أصبحَ أستاذًا لها بالمعهد، وتميَّزَ كذلك في دراسةِ الرياضياتِ والفلسفة. انبهرَ «كارا دو فو» بالعلماءِ العربِ وبتقدُّمِهم في جميعِ العلومِ وتمتُّعِهم بحياةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ راقية، في وقتٍ كانَ الغربُ المسيحيُّ لا يزالُ يحاربُ البربريةَ «الهمجية». كما قارنَ بين ما تركَ اليونانيون من علومٍ وما تركَه العرب، ونشرَ في مَقالاتِه بعضًا من إنجازاتِ العرب، وتحدَّثَ عن السَّبقِ العربيِّ في وضعِ أُسسِ الهندسةِ التحليليةِ وتطويرِ علمِ الجبر، وأُولى مُحاولاتِ الطَّيران. وذكرَ أيضًا أنَّ الفضلَ يعودُ إلى العربِ في استخدامِ الأصفارِ في الحسابِ على الرغمِ من أنهم لم يبتكِرُوها، وفي الفَلكِ قاموا بوضعِ مُلاحظاتٍ فلكيةٍ قيِّمة، وقاموا بترجمةِ كتبِ الفَلكِ اليونانية، كما ساهمتِ الحضارةُ العربيةُ القديمةُ في ظهورِ عصرِ النهضةِ في أوروبا، منذ أنْ تُرجِمتْ أعمالُ العربِ لتصبحَ حلقةَ الوصلِ بين الحضارتَيْن القديمةِ والحديثة. في عامِ ١٩٠٠م ألَّفَ «كارا دو فو» كتابًا عن الفيلسوفِ «ابن سينا»، وآخَرَ عن «الغزالي» عامَ ١٩٠٢م، وفي عامِ ١٩٠٤م ترجمَ كتابَ «التنبيه والإشراف» للرحَّالةِ «أبي الحَسن علي المسعودي»، كما قامَ بنشرِ مؤلَّفٍ ضخمٍ من خمسةِ مجلداتٍ تحتَ عنوانِ «مفكِّرو الإسلام»، وقد نقلَه «عادل زعيتر» إلى العربيةِ جنبًا إلى جنبٍ مع ترجمتِه العديدَ من مؤلَّفاتِ «كارا دو فو»؛ ليتيحَ لقرَّاءِ العربيةِ ذلك المحتوى البحثيَّ الثمين. تُوفِّيَ «كارا دو فو» — على الأرجح — عامَ ١٩٥٣م، بعدما أضافَ العديدَ من الأبحاثِ الجادةِ والمقالاتِ القيِّمةِ التي تتناولُ فصولًا ومناحيَ عديدةً من الحضارةِ العربيةِ والإسلامية.