«وبوفاةِ صاحبِ الدعوةِ وتوقُّفِ عَلاقةِ السماءِ بالأرض، تجمَّدَ المسلمون عند آخرِ نصٍّ في تطوُّرِ الأحكامِ ليَعتبروهُ حُكمًا صالحًا لكلِّ زمانٍ ومكان، بينما هو، في حقيقةِ الأمرِ ودُونَ أيِّ تَجنٍّ، خارجَ إطارِ المكانِ والزمان.» لطالما تساءلَتِ الأقلامُ وعلَتِ الحناجِرُ تَستفهِم: ماذا حلَّ بالمسلمين حتَّى أصبحوا عِبئًا على الحضارةِ الإنسانية؟ لأجلِ الإجابةِ عن هذا السؤالِ يَنظرُ الدكتور «سيد القمني» إلى واقعِنا الإسلاميِّ من خلالِ العَلاقةِ الديناميكيةِ بين الدينِ والمجتمع؛ إِذْ أحالَ رجالُ الدينِ منذ عصرِ الخلفاءِ الراشدين، وربما قبلَه، الإسلامَ من التَّوحيدِ إلى الوثنيةِ مرةً أخرى، فمَنحوا القداسةَ والعصمةَ لغيرِ الله، بَدءًا من الرسولِ إلى صحابتِه، فأصبحَ الدينُ ألفَ رجلٍ مُقدَّس، وكما تقدَّسَ الأشخاصُ امتدَّتِ القداسةُ إلى النصِّ دونَ العقل؛ الأمرُ الذي سمحَ للحديثِ النبويِّ أن يَحتلَّ مكانةً هامةً في التشريعِ الإسلامي. ولمَّا كان التراثُ الإسلاميُّ أحدَ المكوناتِ التاريخيةِ التي تُشكِّلُ الوعيَ الإسلامي، فإنَّ «القمني» يرى ضرورةَ إعادةِ قراءةِ النصِّ من جديد، عاملًا على تشخيصِ حالِ الأمةِ الإسلاميةِ قبلَ وضعِ خريطةِ العلاج.
سيد القمني: واحدٌ من أكثرِ المفكِّرينَ إثارةً للجَدل؛ فما بينَ اتهامِه بالكفرِ والإلحادِ من جِهة، واحتسابِه ضمنَ التيارِ العقلانيِّ والتنويريِّ من جهةٍ أخرى، يتأرجحُ الموقفُ منه. وُلِدَ سيد محمود القمني في مدينةِ الواسطى بمحافظةِ بني سويف عامَ ١٩٤٧م، وظلَّ يدرسُ حتى حصَلَ على الدكتوراه من جامعةِ جنوب كاليفورنيا (ويجادلُ البعضُ في مِصْداقيةِ حصولِه على تلك الدرجة). تخصَّصَ القمني في الكتابةِ عن بواكيرِ التاريخِ الإسلامي، محلِّلًا وناقِدًا بجُرْأةٍ الكثيرَ من مَحطاتِه التاريخيةِ حتى هُدِّدَ بالاغتيالِ عامَ ٢٠٠٥م على إثرِ اتِّهامِه بالكُفرِ والإلحادِ من قِبَلِ بعضِ خُصومِه. آثرَ القمني بعدَها السلامةَ وأعلَنَ اعتزالَه الفِكرَ والكِتابة، ثم تراجَعَ عن قَرارِه فيما بعد. وأخيرًا وبعدَ جهدٍ طويلٍ جاءَ تقديرُ الدولةِ له بمنحِهِ جائزةَ الدولةِ التقديريةَ عامَ ٢٠٠٩م، وقد صحبَ ذلك زلزالٌ عنيفٌ مِنَ الرفضِ والاعتراض. يدورُ المَشْروعُ الفِكريُّ لسيد القمني حولَ نقدِ التراثِ وغَرْبلتِه؛ حيثُ انتقَدَ الكثيرَ ممَّا يراه خارجَ نطاقِ العقلِ في التاريخِ الإسلامي، فطالَبَ بنسْخِ آياتِ العبيدِ والإماءِ ومِلْكِ اليَمين، مؤكِّدًا أنَّ المُسلِمينَ تجمَّدُوا فكريًّا عندَ وفاةِ الرسولِ معتبِرينَ أن النصَّ القرآنيَّ يواكِبُ عصرَهم الحالي، بينَما كانَ اللهُ ينسخُ بعضَ آياتِه لتُسايرَ التطوُّرَ المجتمعي، وأكَّدَ القمني على أنَّ الرسولَ بشَرٌ يُصِيبُ ويُخطِئ، ولا قَداسةَ لشخصٍ في الإسلامِ سواءٌ أكانَ الرسولَ أم صحابتَه مِن بَعْده، وأنَّ التاريخَ الإسلاميَّ هو سلسلةٌ متصلةٌ مِنَ الدِّماءِ المُهدَرةِ في سبيلِ بناءِ الدولةِ الإسلاميَّة. ولا شكَّ أنَّ هذا جعلَ القمني عُرْضةً للمُساءلة، سواءٌ من أجهزةِ الدولةِ أو الأزهرِ الشريف. ومن أبرزِ مُؤلَّفاتِ القمني: «حُروب دولةِ الرَّسُول» «الحِزْب الهاشِمِي» «الأُسْطورة والتُّراث». ويَظلُّ القمني — اتفقْنا أم اختلفْنا معَه — مفكِّرًا جَرِيئًا يطرحُ آراءَه دونَ مُوارَبة. رحل الدكتور سيد القمني في ٦ فبراير عام ٢٠٢٢ عن عمرٍ يناهز ٧٤ عامًا.