«وهكذا؛ وبعد أن تمكَّن العبريُّون من تهويد تراث المنطقة، وجعلوا جماعتهم وأسلافهم قطبَ الدائرة في كتابهم، فنسبوا بطولات الملاحم القديمة إلى آبائهم الأوائل أحيانًا، وأدرجوا الأبطال في الميثولوجيا القديمة للمنطقة ضِمن النسل العبراني أحيانًا أخرى.»لطالما أُثير الكثيرُ من الجدل حول مدى مِصداقية الرواية التوراتية، وكان «القمني» ضِمن مَن أسهموا في هذا المضمار من خلال دراساته حول تاريخ الشعب اليهودي، ويُعَد الكتاب الذي بين أيدينا إحدى هذه الدراسات التي ناقَش فيها مدى صدق الرواية التوراتية الرسمية، مؤكِّدًا أن اليهودَ في الأصل مجموعاتٌ آرامية تدفَّقت على تخوم الحضارة الكنعانية، متربِّصةً بها لانتهازِ فرصة الهجوم عليها والاستيلاء على تراثها الحضاري وادِّعاء أن هذا التراث هو تراث الشعب اليهودي، بل بدءوا أيضًا في نسج الميثولوجيا التي تدعم روايتَهم الزائفة. كما يتناول الكتاب هذه الميثولوجيا بالتحليل ويقارنها بالميثولوجيا الكنعانية ليَخرج لنا بنتيجةٍ مُفادها أن الميثولوجيا التوراتية هي في الأصلِ التراثُ الأسطوري للحضارة الكنعانية.
سيد القمني: واحدٌ من أكثرِ المفكِّرينَ إثارةً للجَدل؛ فما بينَ اتهامِه بالكفرِ والإلحادِ من جِهة، واحتسابِه ضمنَ التيارِ العقلانيِّ والتنويريِّ من جهةٍ أخرى، يتأرجحُ الموقفُ منه. وُلِدَ سيد محمود القمني في مدينةِ الواسطى بمحافظةِ بني سويف عامَ ١٩٤٧م، وظلَّ يدرسُ حتى حصَلَ على الدكتوراه من جامعةِ جنوب كاليفورنيا (ويجادلُ البعضُ في مِصْداقيةِ حصولِه على تلك الدرجة). تخصَّصَ القمني في الكتابةِ عن بواكيرِ التاريخِ الإسلامي، محلِّلًا وناقِدًا بجُرْأةٍ الكثيرَ من مَحطاتِه التاريخيةِ حتى هُدِّدَ بالاغتيالِ عامَ ٢٠٠٥م على إثرِ اتِّهامِه بالكُفرِ والإلحادِ من قِبَلِ بعضِ خُصومِه. آثرَ القمني بعدَها السلامةَ وأعلَنَ اعتزالَه الفِكرَ والكِتابة، ثم تراجَعَ عن قَرارِه فيما بعد. وأخيرًا وبعدَ جهدٍ طويلٍ جاءَ تقديرُ الدولةِ له بمنحِهِ جائزةَ الدولةِ التقديريةَ عامَ ٢٠٠٩م، وقد صحبَ ذلك زلزالٌ عنيفٌ مِنَ الرفضِ والاعتراض. يدورُ المَشْروعُ الفِكريُّ لسيد القمني حولَ نقدِ التراثِ وغَرْبلتِه؛ حيثُ انتقَدَ الكثيرَ ممَّا يراه خارجَ نطاقِ العقلِ في التاريخِ الإسلامي، فطالَبَ بنسْخِ آياتِ العبيدِ والإماءِ ومِلْكِ اليَمين، مؤكِّدًا أنَّ المُسلِمينَ تجمَّدُوا فكريًّا عندَ وفاةِ الرسولِ معتبِرينَ أن النصَّ القرآنيَّ يواكِبُ عصرَهم الحالي، بينَما كانَ اللهُ ينسخُ بعضَ آياتِه لتُسايرَ التطوُّرَ المجتمعي، وأكَّدَ القمني على أنَّ الرسولَ بشَرٌ يُصِيبُ ويُخطِئ، ولا قَداسةَ لشخصٍ في الإسلامِ سواءٌ أكانَ الرسولَ أم صحابتَه مِن بَعْده، وأنَّ التاريخَ الإسلاميَّ هو سلسلةٌ متصلةٌ مِنَ الدِّماءِ المُهدَرةِ في سبيلِ بناءِ الدولةِ الإسلاميَّة. ولا شكَّ أنَّ هذا جعلَ القمني عُرْضةً للمُساءلة، سواءٌ من أجهزةِ الدولةِ أو الأزهرِ الشريف. ومن أبرزِ مُؤلَّفاتِ القمني: «حُروب دولةِ الرَّسُول» «الحِزْب الهاشِمِي» «الأُسْطورة والتُّراث». ويَظلُّ القمني — اتفقْنا أم اختلفْنا معَه — مفكِّرًا جَرِيئًا يطرحُ آراءَه دونَ مُوارَبة. رحل الدكتور سيد القمني في ٦ فبراير عام ٢٠٢٢ عن عمرٍ يناهز ٧٤ عامًا.