لَمَّا كانَتْ حَضاراتُ الأُمَمِ ومَعالِمُ تَقَدُّمِها تُقاسُ باتِّساعِ حَرَكةِ العِلْمِ واسْتِحْداثِ عُلومٍ جَديدَةٍ تُصْقِلُ الفِكْرَ وتَبْعَثُ عَلى الِاجْتِهادِ والتَّفَكُّر، وانْدِثارِ أُخْرى جامِدَةٍ لا تَرْقَى لِمُتَطَلَّباتِ الأُمَمِ المُتطَلِّعةِ للتَّقَدُّمِ والرُّقِي؛ كانَ القَرْنُ الثَّالِثُ الهِجْرِيُّ هُوَ القاطِرةَ الَّتِي مَهَّدَتْ لتَأْسِيسِ الحَضارَةِ العَرَبيَّةِ الإِسْلامِيَّةِ الَّتِي امْتَدَّتْ لِقُرونٍ بَعْدَه. وفِي الوَقْتِ نفْسِه كانَ لِعُلَماءِ القَرْنِ الثَّالثِ الهِجْرِيِّ اليَدُ الطُّولَى فِي هَذا التَّأْسِيس؛ فَقَدْ تَنَوَّعَتْ مَشارِبُهم فَأَزْهَرَتْ عُقُولُهم في مَيادِينَ عِلْمِيَّةٍ مُتَنَوِّعةٍ كانَ مِن أَهَمِّها التَّرْجَمَة. ومِنْ أَبْرَزِ عُلَماءِ هَذا القَرْنِ «أبو حَيَّان التَّوْحِيدي» الفَيْلَسوفُ المُتَصَوِّف، والأَدِيبُ البَلِيغ، وَكذَلِكَ «مِسْكَوَيْهِ» الشَّاعِرُ والفَيْلَسُوف، وفِي هَذا الكِتابِ يُقَدِّمانِ لَنَا سِفْرًا فِي الأَخْلاقِ والْأَدبِ والتَّصَوُّف، عَن طَريقِ مَجْموعَةِ أَسْئِلةٍ تَلِيها أَجْوِبَة، خَرَجَتْ لَنا كمُنافَرةٍ أَدَبيَّةٍ أخْلاقِيَّةٍ جَامِعَة.
أبو حيان التوحيدي: فيلسوفٌ متصوِّفٌ وأديبٌ بارع، ويُعَدُّ من أعلامِ القرنِ الرابعِ الهجري. هو «عليُّ بنُ محمدِ بنِ العباسِ التوحيديُّ»، كُنْيتُه «أبو حيَّان»، وقدِ اختُلِفَ في نسبتِه إلى التوحيد، وإنْ رجَحتْ نسبتُه إلى نوعٍ من تُمورِ العراقِ يُطلَقُ عليهِ «التوحيد» كانَ والدُه يتاجرُ فيه، وقِيلَ نسبةً إلى المعتزلةِ الذين يُلقِّبونَ أنفسَهم بأهلِ العدلِ والتوحيد. كانت ولادتُه في عامِ ٣١٠ﻫ في مدينةِ شيرازَ (نيسابور) وأقامَ أغلبَ حياتِه ببغداد، وكانت طفولتُه صعبة؛ فهو من عائلةٍ فقيرةٍ عاشت في حرمانٍ وشَظَفٍ مِنَ العيش، وعندما صارَ يتيمًا بوفاةِ والدِه وانتقالِه إلى كفالةِ عمِّه لم يجِدْ في كنَفِه الرعايةَ المأمولة؛ فوجَدَ ملاذَهُ بينَ الكتبِ حيثُ عمِلَ بمهنةِ الوِرَاقة، فصارَ موسوعيًّا. حاوَلَ الاتصالَ ﺑ «ابنِ العميدِ» و«الصاحبِ ابنِ عَبَّادٍ» و«الوزيرِ المُهَلَّبي»، ولكنَّه كانَ يعودُ في كلِّ مرةٍ خائبَ الآمال، ولعلَّ تكرارَ هذه الإحباطاتِ على مدارِ حياتِه هو ما حدَاهُ إلى إحراقِ كُتبِه بعدَ أن قارَبَ العمرُ نهايتَه، ولم يَنْجُ منها إلا ما نُسِخَ قبلَ ذلك. يبدو أبو حيَّانَ التوحيديُّ من خلالِ كتبِه مُثقَّفًا متنوِّعَ المصادرِ واسعَ الاطِّلاع، على وعْيٍ بالحركةِ الثقافيةِ واتصالٍ ببعضِ رموزِها في عصرِه، كما يبدو أديبًا يمتازُ أسلوبُه بالترسُّل، وله مِنَ المُؤلَّفاتِ الكثيرُ في عدةِ مَجالات، أشهرُها «الإمتاعُ والمؤانسة»، و«البصائرُ والذخائر»، و«الصداقةُ والصَّدِيق»، و«المقابسات»، و«الهواملُ والشوامل»، و«الإشاراتُ الإلهية». ويُعَدُّ أبو حيَّانَ من الشخصياتِ المثيرةِ للجدلِ حتى الآن؛ فما زالَ الناسُ فيه بينَ مادحٍ وقادح، ولعلَّ تبايُنَ تلك المواقفِ يعودُ في جانبٍ منه إلى شخصيةِ الرجل، كما يعودُ في جانبٍ آخَرَ إلى ما نُسِبَ إليهِ أو تبنَّاه هو من آراءٍ ومواقف، ويُعَدُّ أشهرَ مَن مدَحَه وشهِدَ له بالصلاحِ والتقوى «تاجُ الدينِ السُّبْكي» و«ياقوتٌ الحَمَوي»، وممَّنْ قدَحَ فيه واتَّهمَه بالضلالِ والإلحادِ والزندقةِ «الحافظُ الذهبيُّ» و«ابنُ الجَوْزِيِّ» و«ابنُ حجرٍ العسقلاني». وكانتْ وفاتُه في شيرازَ عامَ ٤١٤ﻫ على أرجحِ الأقوال، وذلكَ بعدَ هروبِه من وعيدٍ بالقتلِ مِنَ «الوزيرِ المُهَلَّبي» بعدَ وِشايةٍ نالتْهُ مِن خصومِه، وبعدَ أنْ أَثْرى المكتبةَ العربيةَ بروائعِ الكُتب. ابن مسكويه: هُوَ أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه، كُنْيتُه أبو علي الخَازِن؛ إِشارةً إلَى عَملِه خازِنًا لمَكْتباتِ البويهيِّين.كمَّا لُقِّبَ ﺑ «صاحِبِ تَجارِبِ الأُمَم»، وهُوَ اسْمُ مُؤلَّفِه الشَّهِيرِ فِي التَّارِيخ. وُلِدَ مسكويه حَوالَيْ ٣٢٠ﻫ المُوافِقِ ٩٣٢م. عاصَرَ البيروني وابن سينا وأبا حيَّان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني، وتُوفِّيَ بأصبهان حَوالَيْ ٤٢١ﻫ المَوافِقِ ١٠٣٠م.