«في الوقتِ الذي أخذتْ فيه أحوالُ المُسلِمينَ الاقتصاديةُ في التحسُّنِ المُطَّرد، بعد أن وَضعَتْ بدرٌ بيدِ المُسلِمينَ القوةَ المادية، سلاحًا، ومالًا، ومَنحتْهم مزيدًا من الثقةِ النفسيةِ في أنفُسِهم وفي مَشروعِهم وفي قائدِهم، فامتلَئوا — بتلك القوةِ المعنويةِ — جرأةً، وأخذوا بتأديبِ المُخالِفينَ في يَثرِب، وإلقاءِ الرُّعبِ في قُلوبِهم، بل وقَتلِ أيِّ شخصٍ يَتجرَّأُ على مُعارَضةِ الدولة.» يَرصدُ «سيد القمني» منهجيةَ الرسولِ الحربيةَ في التعامُلِ معَ المستجداتِ الداخليةِ والخارجية؛ حيثُ حرصَ الرسولُ على بناءِ دولتِه واستِئصالِ شَأْفةِ المُعارِضِينَ لسيادتِه، مُتَّخِذًا من هزائمِ المسلمينَ دافِعًا للمُضيِّ قُدمًا، وهو ما حدَثَ بعدَ هزيمتَيْ بدرٍ وبئرِ معونة، حيثُ طردَ يهودَ «بني النضيرِ» إثرَ مُماطَلتِهم في المساهَمةِ في تحمُّلِ جزءٍ من ديةِ «بني عامر»، ومُحاوَلتِهم الفاشلةِ لاغتيالِ الرسُول، وما تبعَ ذلكَ من تأليبِهم قريشًا على الخروجِ فيما عُرِفَ بغزوةِ «الخندق»، التي تَظهرُ فيها خيانةُ يهودِ «بني قُريظة»؛ فكانَ جزاؤُهم مذبحةً لم تَسمعِ العربُ بمثلِها من قبل. وتَتوالى الغزواتُ والفُتوحاتُ حتى يُتوَّجَ الجهدُ الحربيُّ بفتحِ مكة. ومع اتساعِ الدولةِ ظهرَ الانقسامُ داخلَ المجتمعِ الإسلاميِّ معَ استيعابِه الطُّلَقاء؛ وهو ما أدَّى إلى احتجاجِ بعضِهم على تقسيمِ الرسولِ لغنائمِ «هوازنَ» مُتَّهِمِينَ إيَّاه بعدمِ تطبيقِ العدالة.
سيد القمني: واحدٌ من أكثرِ المفكِّرينَ إثارةً للجَدل؛ فما بينَ اتهامِه بالكفرِ والإلحادِ من جِهة، واحتسابِه ضمنَ التيارِ العقلانيِّ والتنويريِّ من جهةٍ أخرى، يتأرجحُ الموقفُ منه. وُلِدَ سيد محمود القمني في مدينةِ الواسطى بمحافظةِ بني سويف عامَ ١٩٤٧م، وظلَّ يدرسُ حتى حصَلَ على الدكتوراه من جامعةِ جنوب كاليفورنيا (ويجادلُ البعضُ في مِصْداقيةِ حصولِه على تلك الدرجة). تخصَّصَ القمني في الكتابةِ عن بواكيرِ التاريخِ الإسلامي، محلِّلًا وناقِدًا بجُرْأةٍ الكثيرَ من مَحطاتِه التاريخيةِ حتى هُدِّدَ بالاغتيالِ عامَ ٢٠٠٥م على إثرِ اتِّهامِه بالكُفرِ والإلحادِ من قِبَلِ بعضِ خُصومِه. آثرَ القمني بعدَها السلامةَ وأعلَنَ اعتزالَه الفِكرَ والكِتابة، ثم تراجَعَ عن قَرارِه فيما بعد. وأخيرًا وبعدَ جهدٍ طويلٍ جاءَ تقديرُ الدولةِ له بمنحِهِ جائزةَ الدولةِ التقديريةَ عامَ ٢٠٠٩م، وقد صحبَ ذلك زلزالٌ عنيفٌ مِنَ الرفضِ والاعتراض. يدورُ المَشْروعُ الفِكريُّ لسيد القمني حولَ نقدِ التراثِ وغَرْبلتِه؛ حيثُ انتقَدَ الكثيرَ ممَّا يراه خارجَ نطاقِ العقلِ في التاريخِ الإسلامي، فطالَبَ بنسْخِ آياتِ العبيدِ والإماءِ ومِلْكِ اليَمين، مؤكِّدًا أنَّ المُسلِمينَ تجمَّدُوا فكريًّا عندَ وفاةِ الرسولِ معتبِرينَ أن النصَّ القرآنيَّ يواكِبُ عصرَهم الحالي، بينَما كانَ اللهُ ينسخُ بعضَ آياتِه لتُسايرَ التطوُّرَ المجتمعي، وأكَّدَ القمني على أنَّ الرسولَ بشَرٌ يُصِيبُ ويُخطِئ، ولا قَداسةَ لشخصٍ في الإسلامِ سواءٌ أكانَ الرسولَ أم صحابتَه مِن بَعْده، وأنَّ التاريخَ الإسلاميَّ هو سلسلةٌ متصلةٌ مِنَ الدِّماءِ المُهدَرةِ في سبيلِ بناءِ الدولةِ الإسلاميَّة. ولا شكَّ أنَّ هذا جعلَ القمني عُرْضةً للمُساءلة، سواءٌ من أجهزةِ الدولةِ أو الأزهرِ الشريف. ومن أبرزِ مُؤلَّفاتِ القمني: «حُروب دولةِ الرَّسُول» «الحِزْب الهاشِمِي» «الأُسْطورة والتُّراث». ويَظلُّ القمني — اتفقْنا أم اختلفْنا معَه — مفكِّرًا جَرِيئًا يطرحُ آراءَه دونَ مُوارَبة. رحل الدكتور سيد القمني في ٦ فبراير عام ٢٠٢٢ عن عمرٍ يناهز ٧٤ عامًا.