ظلت كلٌّ من مصر وتونس تدوران في فلك الدولة العثمانية حتى بعد حيازتهما للسيادة المستقلة عنها؛ فتعرَّض الجذر العثماني والفرعان العربيان لنفس المشكلات السياسية والسيادية، ونفس التحديات الفكرية القادمة من الغرب، بل وكانت استجاباتهم لها جميعًا متشابهةً إلى حدٍّ كبير؛ فسادَ الاعتقاد بأن التفوُّق الأوروبي هو تفوُّق عسكري بالدرجة الأولى، واتجهت الهمم لبناء الجيوش على النمط الغربي، حتى الْتَفَت أولو الأمر إلى أهمية الصناعة والتعليم، وأهمية السعي لتطوير مُختلِف المجالات بالتوازي. حركتان للإصلاح العربي كُتب لهما النجاح في القرن التاسع عشر؛ الأولى قام بها «علي باشا الكبير» في مصر، والثانية قام بها «خير الدين باشا» في تونس؛ وهو مَن وضع المؤلَّف القَيِّم الذي بين أيدينا، ويروي لنا فيه تجربته كقائد لمحاولة النهوض بدولةٍ من أهمِّ دول المغرب العربي.
خير الدين التونسي: السياسي والعسكري العثماني الشهير، واحد من أهم رواد الإصلاح في «تونس» بالقرن التاسع عشر، عُرف ﺑ «أبو النهضة» نتيجة لما حققه، وكان الحامي الأول للأراضي التونسية من الأطماع الفرنسية في عهده؛ كتب مؤلفه الشهير «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، والذي يُعد أحد المؤلفات العربية السياسية النادرة في تلك الحقبة، حيث وثق فيه جزءًا هامًّا من تاريخ المغرب العربي والعالم. وُلد عام ١٨٢٠م في قريةٍ بجبال «القوقاز»، كان مملوكًا ينتمي إلى قبيلة «أباظة» ببلاد الشركس، توفي والده في إحدى الوقائع العثمانية ضد «روسيا»، فأُسر طفلًا على إثر غارة عسكرية، ثم بيع في سوق العبيد ﺑ «إسطنبول». جيء به إلى «تونس» وهو في السابعة عشر من عمره، وأصبح مملوكا ﻟ «أحمد باشا باي» الذي قربه وحرص على تربيته وتعليمه، ولحدَّة ذهنه أقبل على تحصيل الفنون العسكرية والسياسية والتاريخية، وعُين مشرفًا على مكتب العلوم الحربية. اتضحت خصاله الحربية الفريدة وفاز بالمراتب العسكرية عن جدارة، فولَّاه «أحمد باي» أميرًا للواء الخيَّالة سنة ١٨٤٩م، وفي عام ١٨٥٧م عُين وزيرًا للبحر فقام بالعديد من الإنجازات، وضبط اتفاقيات وقوانين لحفظ الأراضي التونسية. كما قام بعدة إصلاحات وعمل على إقامة العدل، وأسهم في وضع قوانين مجلس الشورى الذي أصبح رئيسا له عام ١٨٦١م، ثم قدم استقالته من جميع وظائفه عام ١٨٦٢م تجنبًا للانخراط في الفساد، واستغرقت فترة انقطاعه سبع سنوات انعزل فيها يتأمل ويكتب، فكان نتاج ذلك كتابه الشهير: «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وهو الكتاب الذي وصفه المستشرق الألماني «هاينريش فون مالتزان» بأنه «أهمُّ ما أُلِّف في الشرق في عصرنا هذا». ثم عاد «خير الدين» إلى العمل السياسي عام ١٨٦٩م حينما كُلِّف برئاسة لجنة الكومسيون المالي، تلى ذلك توليه لمنصب الوزير الأكبر عام ١٨٧٣م، ثم الصدر الأعظم ﻟ «تونس» عام ١٨٧٨م، اشتدت الوشايات بينه وبين «الباي» أثناء ذلك؛ فاستقال من منصبه وهاجر إلى «إسطنبول» حيث اهتم السلطان «محمد الثاني» بقدراته، وما لبث أن عينه صدرًا أعظم للدولة العثمانية، فعمل خلال فترة حرجة عانى فيها توابع الهزائم القاسية على يد «روسيا». حاول توطيد علاقات الدولة العثمانية بولاياتها، ولما أخفق في إقناع السلطان «عبد الحميد» بإصلاح نظام الحكم، قدم استقالته من منصبه عام ١٨٧٩م، إلا أنه بقي على اتصال ببلاط السلطان، ثم أصبح عضوًا في مجلس الأعيان حتى وافته منيته هناك في يناير عام ١٨٩٠م. ترك لنا «خير الدين باشا» سيرة ذاتية طيبة، وتجربة إصلاحية عظيمة، ومؤلفًا قيمًا لا يزال مرجعًا للفكر العربي الحديث.