«وكنيستنا الأنطاكية يونانيةٌ سريانية عربية؛ فقد كانت يونانية برجالها في المدن، وبفكرها ولغتها وطقوسها، وكانت سريانية وعربية بشعبها في القرى والأرياف.» تتفاخر كنيسة أنطاكيا بأنها أول كنيسة أُممية، وعلى أرضها عُرف المؤمنون باسم المسيحيين، وهي ثالث كنيسة من حيث الأهمية في الإمبراطورية الرومانية بعد كنيستَي روما والإسكندرية. كان أساقِفة أنطاكيا هم صُنَّاع التاريخ خلال الفترة الباكرة من تاريخ المسيحية؛ إذ عانى مؤمنوها من الاضطهادات الكبرى التي استمرت حتى عهد «دقلديانوس»، وصِيغ على أرضها أولُ قانون إيماني عرفه المسيحيون؛ «قانون الإيمان الأنطاكي». وظل التاريخ يختبر أنطاكيا وبطاركتها، فظلت صامدةً منذ الفتح الإسلامي حتى الانشقاق العظيم عام ١٠٥٤م والحروب الصليبية. غير أنها وإنْ سَلِمتْ من السيوف فلم تَسلَم من الوَحدة التي أُعلِنت عقبَ مجمعِ فلورنسا، فسارعت أنطاكيا إلى الخلاص منها وإعلان رفضها لها. حتى جاء الحدث المُدوِّي بسقوط القسطنطينية عام ١٤٥٣م وارتفاع رايات السلطان «محمد الثاني» عليها. وتتابَع التاريخ على أنطاكيا بعد ذلك من سيادةٍ عثمانية إلى صراعاتٍ دولية حديثة، حتى وقعت تحت الحماية الفرنسية.
أسد رستم: مُؤرِّخٌ لبنانيٌّ عظيمُ الأَثر، يُعَدُّ رائِدَ عِلمِ التوثيقِ في المَشْرقِ العَربي، ومِن أبرزِ مَن وَضَعوا المَنْهجيةَ العِلْميةَ في كتابةِ التاريخِ باللغةِ العربيةِ دُونَ الخُضوعِ لتحيُّزاتٍ مُسبقة، كَما أنَّه أولُ مَن حصَلَ على لَقبِ «دكتور في التارِيخ» في العالَمِ العَربيِّ مِن جامِعةِ شيكاجو. وُلِدَ «أسد جبرائيل رستم مجاعص» بقَريةِ شوير في لبنان عامَ ١٨٩٦م، درَسَ بالمدرسةِ الإنجليزيةِ بالقَرْيةِ ذاتِها ثُمَّ الْتَحقَ بالكليةِ الشرقيةِ بمدينةِ زحلةَ في مُحافظةِ البقاعِ اللبنانيَّة، وكانَتْ بمَثابةِ تَعليمٍ إعدادِي، عادَ بعدَها إلى شوير وأكمَلَ دراستَه بالمدرسةِ العاليةِ ونالَ شَهادةَ البكالوريا عامَ ١٩١١م. في عامِ ١٩١٦م الْتَحقَ «أسد رستم» بالجامعةِ الأمريكيةِ ببيروت، ليَحصلَ على شَهادةِ البكالوريوس في مَجالِ التاريخِ الذي استكمَلَ الدراسةَ فيه حتى حصَلَ على لقبِ أستاذٍ في التاريخِ عامَ ١٩١٩م، ولنبوغِه مُنِحَ بعثةً إلى جامعةِ شيكاجو بالولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ لدراسةِ تاريخِ الشرقِ القديم، عادَ مِنها إلى بيروتَ مرةً أخرى بعدَ حصولِه على الدكتوراه في المَجالِ ذاتِه، ليقومَ بتدريسِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بالجامعةِ الأمريكية. وبعدَ أنْ أمضى عِشْرينَ عامًا في تدريسِ التاريخِ تَركَ الجامعةَ ليَعملَ مُستشارًا في السِّفارةِ الأمريكيةِ ببيروت، ثم مُستشارًا لقيادةِ الجيشِ اللبناني. وقد تخصَّصَ في الكتابةِ عن تاريخِ الشرقِ القديم، وقامَ بنشْرِ مُجلَّدَينِ تحتَ اسمِ «الرُّوم في سِياستِهم وحضارتِهم ودِينِهم وثقافتِهم وصِلاتِهم بالعَرب» عامَ ١٩٥٥م. كما ألَّفَ كتابًا مُفصَّلًا في ثلاثةِ أجزاءٍ لتاريخِ الكنيسةِ الشرقيةِ التابعِ لَها الرومُ الأرثوذكس تحتَ اسمِ «تاريخ كنيسةِ مدينةِ أنطاكية العُظْمى»، نُشِرَ عامَ ١٩٥٨م، وكُرِّمَ على إِثْرِه بلقبِ «مُؤرِّخ الكُرسِي الأنطاكي»، ثم كرَّمتْه دولةُ لبنان بجائزةِ رئيسِ الجمهوريةِ اللبنانيةِ عامَ ١٩٦٤م. وقد أثبَتَ «أسد رستم» أنه يَختلفُ عَن أبناءِ جيلِه مِنَ المؤرِّخين، وحتى عنِ الأَجْيالِ السابِقةِ عليه، بأُسْلوبِه العِلميِّ الذي اتَّبعَه في كِتابةِ التاريخِ دُونَ دمجٍ للأهواءِ في التَّأْريخ، وفي البحثِ والتنقيبِ عَنِ المعلوماتِ بشكلٍ دَقِيق؛ فحصَلَ على وِسامِ المَعارفِ المِصْريِّ ووِسامِ الاستحقاقِ السُّوري. في عامِ ١٩٦٥م تُوفِّيَ «أسد رستم» مُخلِّفًا مكتبةً تاريخيةً نادرةً وأسلوبًا في التأريخِ يُحتذَى به، وقد مُنِحَ بعدَ وفاتِه وِسامَ الاستحقاقِ اللبناني المُذهَّب.