«تعالَي، هيا نأخذ حظَّنا من المتعة، فنضطجع معًا ونرتوي من لذَّات الحب، فلم يسبق لي أن اجتاحَتني مثل هذه الرغبة … كلا، ولا حتى عندما خطفتك أولًا من «لاكيدايمون» الجميلة، في سُفني ماخرة البحار … وفي جزيرة «كراناي» نعمتُ بمُقاسَمتك فراشَ الحب … والآن، تَتملَّكني نفس الرغبة الجامحة والغرام الجارف.»أخذ «هوميروس» يتنقَّل بين المدن ليَشدوَ بمَلحمته على مَسامع الإغريق، مردِّدًا أسطورته التي خُلِّد بها، فما عَرفت الإنسانية يومًا أسطورةً صنَعت تاريخًا ﮐ «الإلياذة» و«الأوديسة»؛ تلك الأسطورة التي تُوغِل في القِدم لِما يزيد عن ألف عام، والتي بقيَت أسطورةً حتى تحوَّلت إلى حقيقةٍ تاريخية مُؤكَّدة في أواخر القرن التاسع عشر. غير أن «هوميروس» هو اللغز الذي بَقي ولم تُفكَّ شفرتُه إلى اليوم؛ وما زالت شخصيته محيِّرةً للعلماء والأدباء، فما تيقَّنَّا من وجوده أو عدمه. مضت قرونٌ طويلة ولا أحدَ يَغفل عن أهمية المَلحمة — أَباطِرة وباباوات، شُعراء وأدباء — كلٌّ يقيس عليها ويقتبس منها. تتناول «الإلياذة» أحداثَ الحصارِ العنيف الذي ضُرب حول مدينة طروادة، والحرب التي أهلكت الرجال، وانقسَمَ فيها الآلهة بين مؤيِّد للطرواديين ومؤيِّد لليونانيين، وتقاسموها جنبًا إلى جنب مع البشر. كان يُمكِن تجنُّب تلك الحرب لو أن «هيلين» — أجملَ نساء الأرض قاطبةً — لم تكن ارتَضَت أن تهرب مع «باريس» وتترك «مينيلاوس» ملِك أسبرطة؛ فكان جمالها نِقمةً عليها وعلى طروادة، فهلَك أشجعُ المحاربين وأقوى الرجال في حربٍ اندلعَت بسببها.
«هوميروس» Homeros تعني باللغة الإغريقية الرهينة أو الأعمى، وهو أكبر شاعر عرَفته الحضارة الإغريقية، وصاحب «الإلياذة» و«الأوديسة». كانت حياته مَثَارَ جدل كبير بين مؤرِّخي الحقبة الكلاسيكية، حيث قال هيرودوت: إن هوميروس سبقه بأربعمائة عامٍ أي حوالي العام ٨٥٠ق.م، وتُرجِّح مصادر قديمة أخرى أنه عاش في فترة قريبة من حرب طروادة التي وقعت بين عامي (١١٩٤–١١٨٤ق.م) وبينما يَعُدُّهُ القدماء شخصية تاريخية، يُشكِّك الباحثون والعلماء المعاصرون في وجوده التاريخي أصلًا، حيث لا توجد ترجمات موثوقة من الحقبة الكلاسيكية تتحدث عن سيرته، وقد اصطلح المؤرِّخون فيما بينهم على تسمية هذا الجدل الكبير حول هوميروس (وجوده، وحياته، وأشعاره … إلخ) بالمسألة الهوميرية The Homeric Question. يقال إن هوميروس كان رئيسًا للمُنشِدِين في بلاط الأمراء، ويُروى أنه قام بالعديد من الجولات التي قادته إلى مصر وإيطاليا واليونان، إلى أن استقر به المُقام في «خيوس». وحين بلغ هوميروس المشيب، أصبح مُعوِزًا، وفقَد بصره؛ فدفعه ذلك إلى التنقُّل من مدينة إلى أخرى بحثًا عن الرزق، إلى أن وافته المَنِيَّةُ في جزيرة «إيوس». يَعُدُّ النقاد هوميروس ينبوعَ الشعر الإغريقي وقمته، حيث كان شاعرًا فذًّا، برع في نظم «الإلياذة» و«الأوديسة»، وكانت أشعاره وملاحمه تُشكِّل النموذج المثالي الذي يحتذيه الشعراء في أعمالهم، ولا يقتصر تأثير هوميروس على شعراء الحِقبة الكلاسيكية فقط، ولكن يمتد أيضًا إلى شعراء أوروبيين وعالميين ينتمون لأحقاب زمنية لاحقة، كما يُلاحظ أن شعر هوميروس فطري، ويُمكن تمييز أسلوبه بسهولة بسبب سهولة حركته ووضوحه التام، والدافع العاطفي المميَّز الكامن في نصوصه الشعرية، كما تهتم أعماله بالتركيز على التأثير الدرامي والعواطف البشرية.