«وآخِرُ ما يُمكنُنا قولُه في موضوعِنا هذا هو أن مُتابَعةَ خطِّ السَّيرِ الحقيقيِّ لرِحلاتِ النبيِّ إبراهيم قَد أضاءَتْ لنا مَناطقَ قاتِمةً في التاريخ، وبعضُها كانَ ظلامًا دامسًا نحسَبُه مَقصُودًا، ونتركُ كشفَ القَصدِ لجُهدٍ آخَر، ورُبما لباحثٍ آخَرَ له مَقاصدُ أُخرى.» أعطَتِ التَّوراةُ للنبيِّ إبراهيمَ مَكانةً كَبيرةً في تاريخِ الشَّعبِ العِبراني؛ فهو لدَيْهم أصلُ سلسلةٍ مُتعاقبةٍ منَ الأنبياء، وفي الإسلامِ هو أبو الأنبياء، ومنهُ تَنحدرُ سُلالةٌ كريمةٌ آخرُها النبيُّ مُحمَّد، غيرَ أنَّ اختلافَ الرِّواياتِ بينَ الكُتبِ المُقدَّسةِ حولَ أصلِ إبراهيمَ ورِحلتِه فَتحَتِ البابَ أمامَ الباحثينَ للنَّظرِ في الأَصلِ «التَّاريخيِّ» للنبيِّ الذي يُعَدُّ من أهمِّ الشَّخصياتِ في التاريخِ الدِّيني، والذي نُسبَتْ إليه الأديانُ التَّوحيديةُ الثلاثَةُ فسُمِّيتْ ﺑ «الإبراهيمية». وفي دراستِه تلكَ يُحاولُ «سيد القمني» كشفَ التاريخِ المُزيَّفِ لعَلاقةِ النبيِّ إبراهيمَ بفلسطين، وإزاحةَ السِّتارِ عن عَلاقتِه بالمِصريِّين، وتعقُّبَ مَوطنِه، وتَتبُّعَ خطِّ السَّيرِ الأقربَ إلى الصحَّةِ لارتحالِه في المِنطَقة.
سيد القمني: واحدٌ من أكثرِ المفكِّرينَ إثارةً للجَدل؛ فما بينَ اتهامِه بالكفرِ والإلحادِ من جِهة، واحتسابِه ضمنَ التيارِ العقلانيِّ والتنويريِّ من جهةٍ أخرى، يتأرجحُ الموقفُ منه. وُلِدَ سيد محمود القمني في مدينةِ الواسطى بمحافظةِ بني سويف عامَ ١٩٤٧م، وظلَّ يدرسُ حتى حصَلَ على الدكتوراه من جامعةِ جنوب كاليفورنيا (ويجادلُ البعضُ في مِصْداقيةِ حصولِه على تلك الدرجة). تخصَّصَ القمني في الكتابةِ عن بواكيرِ التاريخِ الإسلامي، محلِّلًا وناقِدًا بجُرْأةٍ الكثيرَ من مَحطاتِه التاريخيةِ حتى هُدِّدَ بالاغتيالِ عامَ ٢٠٠٥م على إثرِ اتِّهامِه بالكُفرِ والإلحادِ من قِبَلِ بعضِ خُصومِه. آثرَ القمني بعدَها السلامةَ وأعلَنَ اعتزالَه الفِكرَ والكِتابة، ثم تراجَعَ عن قَرارِه فيما بعد. وأخيرًا وبعدَ جهدٍ طويلٍ جاءَ تقديرُ الدولةِ له بمنحِهِ جائزةَ الدولةِ التقديريةَ عامَ ٢٠٠٩م، وقد صحبَ ذلك زلزالٌ عنيفٌ مِنَ الرفضِ والاعتراض. يدورُ المَشْروعُ الفِكريُّ لسيد القمني حولَ نقدِ التراثِ وغَرْبلتِه؛ حيثُ انتقَدَ الكثيرَ ممَّا يراه خارجَ نطاقِ العقلِ في التاريخِ الإسلامي، فطالَبَ بنسْخِ آياتِ العبيدِ والإماءِ ومِلْكِ اليَمين، مؤكِّدًا أنَّ المُسلِمينَ تجمَّدُوا فكريًّا عندَ وفاةِ الرسولِ معتبِرينَ أن النصَّ القرآنيَّ يواكِبُ عصرَهم الحالي، بينَما كانَ اللهُ ينسخُ بعضَ آياتِه لتُسايرَ التطوُّرَ المجتمعي، وأكَّدَ القمني على أنَّ الرسولَ بشَرٌ يُصِيبُ ويُخطِئ، ولا قَداسةَ لشخصٍ في الإسلامِ سواءٌ أكانَ الرسولَ أم صحابتَه مِن بَعْده، وأنَّ التاريخَ الإسلاميَّ هو سلسلةٌ متصلةٌ مِنَ الدِّماءِ المُهدَرةِ في سبيلِ بناءِ الدولةِ الإسلاميَّة. ولا شكَّ أنَّ هذا جعلَ القمني عُرْضةً للمُساءلة، سواءٌ من أجهزةِ الدولةِ أو الأزهرِ الشريف. ومن أبرزِ مُؤلَّفاتِ القمني: «حُروب دولةِ الرَّسُول» «الحِزْب الهاشِمِي» «الأُسْطورة والتُّراث». ويَظلُّ القمني — اتفقْنا أم اختلفْنا معَه — مفكِّرًا جَرِيئًا يطرحُ آراءَه دونَ مُوارَبة. رحل الدكتور سيد القمني في ٦ فبراير عام ٢٠٢٢ عن عمرٍ يناهز ٧٤ عامًا.