«وأحسَّ عتريس أن الشباب عاد إليه، وبحركةٍ مُفاجئة كان يقف في وسط المقام كالبصلة؛ رأسه تحت ورجلاه في السماء، وبحركةٍ مفاجئة أيضًا هاج الناس، ورفع المشايخ وجوهَهم عن المصاحف، وهجم عليه حارس المقام، فأمسكه من رقبته وزعق: يا نجس! يا ملعون!» في مجموعته القصصية هذه يُعانِق الدكتور «عبد الغفار مكاوي» آلامَ الإنسانِ وأحزانَه ومعاناتَه في صورٍ عديدة، فتمضي الثمانيَ عشرةَ قصة في تَنوُّع يغلب عليه التراجيدية والشجن؛ ففي «الست الطاهرة» تَظهر لنا إحدى شرائح المجتمع المصري في ذلك البهلوان الذي يَعجز عن ممارسة مهنته بعد إصابته واستناده على عكاز، وحين يطلب العون من مقام الست الطاهرة ويُخيَّل إليه أنه يُحاورها تُصيبه نزوة عارمة فيقوم بحركةٍ بهلوانية في قلب المقام من فرط حُبه للمقام وصاحبته؛ فتنتهي به الحال ميتًا في زنزانةٍ صغيرة، وفي «أسوار المدينة» نلمح رمزية سياسية اجتماعية عن الحرية ونظام الحُكم وسلوك الشعوب، وفي «الرجل الذي يعتذر دائمًا» يُقدم المجنون الذي يَدَّعي الألوهية اعتذارَه دائمًا عن الغفلة عن تلبية رغبات بعض خَلقه لانشغاله بخَلق العالم.
عبد الغفار مكاوي: أَكادِيميٌّ وفَيلَسوفٌ وأَدِيبٌ مِصرِي، وعَلَمٌ من أَعلَامِ التَّرجمةِ الَّذِينَ نَقَلوا الأَدَبَ الأَلمَانيَّ إلى اللُّغةِ العَرَبِية. وُلِدَ عبد الغفار حسن مكاوي فِي بَلدَةِ «بلقاس» بِمُحافَظةِ الدَّقَهلِيةِ فِي ١١ يناير عامَ ١٩٣٠م. تَلقَّى تَعلِيمَهُ الأوَّلَ بالكُتَّابِ عامَ ١٩٣٦م، وفِي العامِ التالي التَحَقَ بالمَدرَسةِ الابتِدَائِية، ثُمَّ حصَلَ عَلى «شهادةِ الثَّقافَة» مِنَ المَدرَسةِ الثَّانوِيةِ بطنطا عامَ ١٩٤٧م، وخِلالَ هَذهِ الفَترةِ قرأَ لِكِبارِ الأُدَباءِ والشُّعَراءِ والمُترجِمينَ مِن أَمثَال: طه حسين، والمازِني، والعقاد، وتوفيق الحكيم، والمنفلوطي، وجُبران. وفِي عامِ ١٩٥١م حَصَلَ على ليسانس الفَلسَفةِ مِن كُليةِ الآدابِ جَامِعةِ القَاهِرة، كمَا حَصَلَ عَلى الدُّكتُوراه فِي الفَلسَفةِ والأَدَبِ الألمَانيِّ الحَدِيثِ مِن جَامِعةِ فرايبورج ﺑ «بريسجاو» بألمَانيا عن رِسالتِهِ «بَحْثٌ فَلسَفِي عن مفهومَيِ المُحَالِ والتمرُّدِ عند ألبير كامي» عامَ ١٩٦٢م. كما كان مُلِمًّا بعِدَّةِ لُغاتٍ كالألمَانيةِ والإنجلِيزيةِ والفَرَنسيةِ والإيطَالِيةِ واللاتِينيةِ واليُونانيةِ القَدِيمة، وكانَ لِإتقانِهِ اللُّغةَ الألمَانيةَ دورٌ هامٌّ فِي ترجمةِ العَديدِ مِن كلاسِيكياتِ اَلأدبِ الألمَاني. بدأَ سِلكَهُ الوَظيفيَّ فِي وَظيفةِ «مُفهرِس» بِدَارِ الكُتبِ المِصريةِ بَينَ سَنتَي (١٩٥١–١٩٥٧م)، وفِي عامِ ١٩٦٧م عمِلَ بالتَّدريسِ بقِسمِ اللُّغةِ الألمَانيةِ ثُم قِسمِ الفلسفةِ بكُليةِ الآدَابِ جَامِعةِ القَاهرة، كمَا عُيِّن مُدرِّسًا فِي كُليةِ الآدابِ بجَامِعةِ الخرطوم. وخِلالَ الفَترةِ ١٩٧٨–١٩٨٢م أُعِيرَ إلى جَامِعةِ صَنعَاءَ باليَمَن، لِيَعودَ إلى التَّدرِيسِ بجَامِعةِ القَاهرةِ حتَّى عامِ ١٩٨٥م، غَيرَ أنهُ استقالَ مِنها ليَلتحِقَ بالتَّدرِيسِ بجَامِعةِ الكويت. نالَ مكاوي جَائزةَ الدَّولةِ التَّشجِيعيةَ فِي الأَدبِ عامَ ١٩٧٦م عن كِتابِ «ثورة الشِّعر الحديث»، ومِيداليةَ جوته مِن ألمَانيا عامَ ٢٠٠٠م، وجَائزةَ التميُّزِ مِن اتِّحادِ الكُتَّابِ عامَ ٢٠٠٢م، وجَائزةَ الدَّولةِ التَّقدِيريةَ فِي الآدَابِ مِنَ المجلسِ الأَعلى للثَّقافةِ عامَ ٢٠٠٣م. تَركَ لنا إنتاجًا أَدبيًّا غَزيرًا ما بَينَ أَعمالٍ مُؤلَّفةٍ ومُترجَمةٍ في الشِّعرِ والقصصِ والدِّراساتِ الأَدبيةِ والفَلسَفية، مِنها: «بِشْر الحافي يَخرُج من الجحيم»، و«مدرسة الحكمة»، و«المُنقِذ»، و«نداء الحقيقة»، و«هلدرلين»، و«لِمَ الفلسفة؟»، و«النور والفراشة» لجوته، و«تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» لكانط، و«ملحمة جلجاميش»، بِجانِبِ العَديدِ مِنَ المَقالاتِ التِي نَشرَها فِي «الثقافة» و«الآداب» و«المجلة» و«فصول» وغيرها. تُوفِّيَ عبد الغفار مكاوي في ۲٤ ديسمبر عام ۲۰۱۲ عن عُمرٍ يُناهِزُ ۸۲ عامًا.