يَزخرُ التراثُ العربيُّ بالعديدِ منَ النصوصِ التي تؤرِّخُ للفكاهةِ والأخبارِ التي كانَ يَتناقَلُها الناسُ فيما بينَهم؛ يتندَّرونَ بها، وتَظهرُ فيها جوانبُ حياتِهم الاجتماعيةِ في قالبٍ ساخِر. وقد جمَعَ الفقيهُ والمؤرِّخُ «أبو الفرج ابن الجوزي» الذي عاشَ في القرنِ السادسِ الهجري/الحادِيَ عشرَ الميلاديِّ مجموعةً من تلكَ الطرائفِ والنوادرِ التي اختُصَّ بها الحَمْقى والمُغفَّلون، مُتراجِعًا بذلك عن جمْعِ أخبارِ الأذكياء؛ إذْ رأى أن الشيءَ يُعرَفُ بضدِّه. وهذهِ المعرفةُ أبلغُ في الترغيبِ في حُسْنِ التصرُّف، فضلًا عمَّا تُدخِلُه على النفْسِ منَ البَشاشةِ والسُّرور. يَبدأُ المؤلِّفُ بشرحِ مَعنى الحَماقة، ويَذكرُ أنواعَها والمُرادِفاتِ المُختلِفةَ لها، وكذلكَ صِفات الأَحْمق، منطلقًا من تلك المُقدِّماتِ إلى تَحليقٍ مُشوِّقٍ معَ مَن ضرَبَ العربُ بهم المَثلَ في الحَماقة؛ رِجالًا ونساءً، حَمْقى أصليِّينَ وعُقَلاءَ راقَتْهم الحَماقةُ فتحوَّلوا إليها، ولم يهتمُّوا بمَوْقعِهم العِلميِّ أو السِّياسي، فكانَ مِنْهم الرُّواةُ والمُحدِّثون، وكانَ مِنْهم الوُلاةُ والأُمَراءُ المُغفَّلون، بل القُضاةُ والكتَّابُ والشُّعراء أيضًا.
أبو الفرج ابن الجوزي: فقيهٌ حنبليٌّ محدِّثٌ ومؤرِّخٌ ومتكلِّمٌ يَنتهي نسَبُه إلى «أبي بكر الصدِّيق» رضِيَ الله عنه، وقد حظِيَ بشُهْرةٍ واسعةٍ ومَكانةٍ كبيرةٍ في الخطابةِ والوعْظِ والتصنيف، كما برزَ في كثيرٍ منَ العلومِ والفُنون. هو «أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد»، واشتُهِرَ باسمِ «ابن الجوزي» لوجودِ شجرةِ جوزٍ في دارِه بمدينةِ واسِطَ لم يكُنْ لها مَثِيل، وقيلَ إنه نِسبة إلى «فرضة الجوز» وهي مَرفأُ نهْرِ البصرة. وُلِد عامَ ٥١٠ﻫ/ ١١١٦م في بغداد لعائلةٍ غنية؛ فقد كانَ أهلُه تجَّارًا في النحاس، وساعَدَتْه ثروةُ والِدِه على التفرُّغِ لطلبِ العِلْم، وهو بالرغمِ من غِناه كانَ زاهِدًا وَرِعًا، وتتلمَذَ على يدِ كبارِ علماءِ عصْرِه، ومِنهم «القاضي أبو بكر الأَنْصاري»، و«أبو بكر المَزْرَفي». تولَّى منصبَ الوِزارةِ في عهدِ «الخليفة الناصر» بتعيينٍ مِنَ «الوالي ابن يونس الحنبلي»، وبعدَ أنْ خلفَ «ابن القصاب» منصبَ «ابن يونس الحنبلي» قامَ بمُلاحَقةِ كلِّ مَن له صِلةٌ به، فكانَ مَصِيرُ ابن الجوزي النفْيَ إلى مدينةِ واسِطَ على الرغمِ من كِبَرِ سِنِّه آنَذاك، وعادَ بعدَ خمسِ سنواتٍ من مَنْفاه إلى مَجالِسِ وعْظِه في بغداد بحضورِ الخليفةِ ليضرِبَ للناسِ أروعَ مثالٍ في الصبرِ على المِحَنِ وتحمُّلِ الشَّدائد. كانَ له دورٌ كبيرٌ ومُشارَكةٌ فعَّالةٌ في الخدماتِ الاجتماعية؛ وقد بنى مَدْرسةً ﺑ «درب دينار»، وأسَّسَ فيها مكتبةً كبيرةً ووقَفَ عليها كُتُبَه، وقد حظِيَ بتقديرِ العامَّةِ والخاصةِ وثَنائِهم، فقد كانَ خطيبًا مُفوَّهًا وأديبًا لا يُشَقُّ له غُبار. وقد تميَّزَ ابنُ الجوزي بغزارةِ إنتاجِه وكثرةِ مُصنَّفاتِه التي بلغَتْ نحوَ ثلاثمائةِ مُصنَّفٍ شملَتِ الكثيرَ منَ العلومِ والفُنون، فهو أحدُ العلماءِ المُكثِرِينَ في التصنيفِ في التفسيرِ والحديثِ والتاريخِ واللُّغةِ والطبِّ والفقهِ والمَواعِظِ وغيرِها منَ العُلوم، ومن أبرزِ كُتبِه: «زادُ المسيرِ في عِلمِ التفسير»، و«صَيدُ الخاطِر»، و«المُنتظمُ في تواريخِ الأممِ منَ العربِ والعَجَم»، و«أخبارُ الحَمْقى والمُغفَّلِين». تُوفِّيَ في منتصفِ رمضانَ عامَ ٥٩٧ﻫ بعد عامَيْنِ من عَودتِه منَ المَنْفى، وبعدَ أنْ أضافَ للتراثِ العربيِّ الكثيرَ منَ المُؤلَّفاتِ الفريدة.