تنطبع في النفس الإنسانية من كلِّ حادثةٍ بصمة، يستعيدها صاحبها بمجرد أن يَطرق أحدُهم باب شُجونه؛ لينفرط عِقد الذكريات والحوادث سريعًا، آخذًا بخُطى الروح والعقل إلى عالمٍ آخر. يجد الكاتب في هذه الشجون مَنفذًا لإبداعه؛ فيَحُوك مما يختلج في صدره من الخواطر أبدعَ الحكايات. هكذا استطاع «محمد لطفي جمعة» أن ينظم لنا هذه المتتالية القصصية إثرَ وفاة صديقٍ له؛ حيث جعل بطلها روحَ هذا الصديقِ الحائرَ، يأتيه في زياراتٍ ليلية ليُحاوره في شئون القلب والحياة، يَحكي له ذكريات لا تُنسى مرت في عمر صاحبها، ويُخلِّد بعضًا مما عاشه، في سلسلةٍ من النصوص التي امتازت بالصدق والحميمية وسلاسة القول والتعبير.
محمد لطفي جمعة: كاتبٌ ومترجِمٌ ورِوائي، كانَ مَوْسوعيَّ المَعْرفة، ويُجِيدُ العديدَ مِنَ اللغات، كما أنه أحدُ كبارِ المحامِينَ والناشِطينَ السياسيِّينَ المِصْريِّينَ في عصْرِه. وُلِدَ بالإسكندريةِ عامَ ١٨٨٦م، لأسرةٍ تنتمي إلى الطبقةِ الوسطى، وكانتْ مُرْضِعتُه السيدةَ «ملوك عيد» والِدةَ الشيخِ سيِّد درويش، فكانَ أخاه في الرَّضاعة. الْتَحقَ في بدايةِ حياتِه بمدرسةِ الأقباطِ بطنطا، ثم أمْضَى أربعَ سنواتٍ بالمدرسةِ الأميريةِ التي نالَ منها شهادتَه الابتدائية، ثم انتقَلَ إلى القاهرةِ ليَحْصلَ مِنَ المدرسةِ الخديويةِ على شهادتِه الثانوية، وسافَرَ بعدَها إلى بيروتَ ليَلْتحقَ هناكَ بالكليةِ الأمريكيةِ لدراسةِ الفلسفة، كما حصَلَ بعدَ عودتِه للقاهرةِ على إجازةِ مدرسةِ المُعلِّمِين، وعملَ في بدايةِ حياتِه مدرِّسًا لمدةِ ثلاثِ سنوات. نالَ درجةَ الدكتوراه من كليةِ الحقوقِ بليون في فرنسا عامَ ١٩١٢م، وقامَ بعدَها بتدريسِ مادةِ القانونِ الجنائيِّ في الجامعةِ المِصْرية. نَشأتْ بينَه وبينَ الزعيمَيْن الوطنيَّيْن، مصطفى كامل ومحمد فريد، صَداقةٌ وطيدةٌ واتفاقٌ في الرُّؤَى السياسيَّة؛ الأمرُ الذي دفَعَه دونَ تردُّدٍ للانضمامِ إلى جانبِهما في الحزبِ الوطني، ومشارَكتِهما في الكفاحِ السياسيِّ ضدَّ الاستعمار، ولمْ يَقتصِرْ كِفاحُه على المُستوى الحَركيِّ المتمثِّلِ في العملِ السياسيِّ والنشاطِ الحِزْبي، ولكنَّه امتدَّ أيضًا للعملِ الصحافيِّ الفكريِّ التنويري، فكانَ يكتبُ في معظمِ الدَّوْرياتِ والمَجلَّاتِ والجرائدِ العربيةِ التي كانت تَصدُرُ في عصْرِه. كانَ داعيةً للحوارِ الحضاري، والتعاوُنِ بينَ الأممِ في مجالِ العملِ والثقافةِ والعِلْم، وكانَ مِنَ المُنادِينَ بمَجانيَّةِ التعليم، وطالَبَ بإنشاءِ المَتاحفِ الاجتماعية، والنُّصبِ التذكاريَّة، كما وضَعَ أولَ قاموسٍ للُّغاتِ السريَّة، وأشارَ في كثيرٍ من أَعْمالِه الأدبيةِ والعِلْميةِ إلى العيوبِ الكامنةِ في البنيةِ القانونيةِ للمُجتمعِ المِصْري، وأرَّخَ للفلسفةِ الإسلاميةِ والتصوُّفِ ورِجالِه. ألَّفَ الكثيرَ مِنَ الكُتبِ في العديدِ مِنَ الحقولِ المَعْرفية؛ كالأدبِ والفلسفةِ والتاريخ، بالإضافةِ إلى ترجمتِه العديدَ مِنَ الكُتبِ الشهيرةِ في الحضارةِ الغربيَّة، ككتابِ «الأمير» لميكيافيلي، و«الواجب» لجون سيمون، و«مائدة أفلاطون» وغيرِها مِنَ الكُتبِ الأخرى. أصيبَ بجلطةٍ دماغيةٍ مرِضَ على إِثْرِها مَرضًا طويلًا، ثُم فارَقَ الحياةَ متأثِّرًا بمُضاعَفاتِها.