يَجمَعُ هَذا الكِتابُ عَددًا مِنَ المُحاضَراتِ المُحتوِيةِ عَلى آراءٍ هامَّةٍ لثَلاثةٍ مِن كِبارِ المُفكِّرينَ العَرَب؛ ففِي القِسمِ الأَولِ مِنهُ يَتحدَّثُ «محمد كرد علي» عَنِ الأَثرِ الذي أحْدَثَتْه الحَضارةُ العَربيةُ في الحَضارةِ الغَرْبية، وعَن أَهمِّ المَراكِزِ الحَضارِيةِ العَربيةِ لا سِيَّما في مِصرَ والأَنْدلُس، التي أَسْهمَتْ في نَشرِ العِلمِ والمَعرفةِ في شَتَّى أَرْجاءِ الأَرْض، وكَذلِك عَنِ الدَّورِ الذي قامَ بِه الأُوروبيُّونَ في إِحْياءِ الثَّقافةِ العَربيةِ مِن جَدِيد، وخاصَّةً في أَواخِرِ القَرنِ الثامِنَ عشَرَ المِيلادِي، معَ عَقدِ مُقارَنةٍ سَرِيعةٍ بَينَ الحَضارتَيْن. أمَّا في القِسمِ الثانِي فيَتناوَلُ «علي مصطفى مشرفة» الأَثرَ العِلميَّ في الثَّقافةِ المِصرِيةِ الحَدِيثة. وفي القِسمِ الثالِثِ والأَخِيرِ يَتعرَّضُ عَمِيدُ الأَدبِ العَربيِّ «طه حسين» لنَشأةِ حُريةِ الرَّأيِ والتَّعبِير، وأَهمِّ الفَلاسِفةِ الذين دافَعُوا عَنْها ببَسالَة، ومِن بَينِهِم: «فولتير»، و«جان جاك روسو»، و«إرنست رينان»، و«الفيلسوف تين».
طه حسين: أديبٌ ومفكِّرٌ مِصريٌّ، يُعَدُّ عَلَمًا من أعلام التنوير والحركة الأدبية الحديثة، امتلَكَ بَصِيرةً نافذة وإنْ حُرِم البصر، وقاد مشروعًا فكريًّا شاملًا، استحقَّ به لقبَ «عميد الأدب العربي»، وتحمَّلَ في سبيله أشكالًا من النقد والمُصادَرة. وُلِد «طه حسين علي سلامة» في نوفمبر ١٨٨٩م بقرية «الكيلو» بمحافظة المنيا. فَقَدَ بصرَه في الرابعة من عمره إثرَ إصابته بالرمد، لكنَّ ذلك لم يَثْنِ والِدَه عن إلحاقه بكُتَّاب القرية؛ حيث فاجَأَ الصغيرُ شيخَه «محمد جاد الرب» بذاكرةٍ حافظة وذكاءٍ متوقِّد، مكَّنَاه من تعلُّم اللغة والحساب والقرآن الكريم في فترة وجيزة. وتابَعَ مسيرته الدراسية بخطوات واسعة؛ حيث التحَقَ بالتعليم الأزهري، ثم كان أول المنتسِبين إلى الجامعة المصرية عامَ ١٩٠٨م، وحصل على درجة الدكتوراه عامَ ١٩١٤م، لتبدأ أولى معاركه مع الفكر التقليدي؛ حيث أثارَتْ أطروحتُه «ذكرى أبي العلاء» مَوجةً عالية من الانتقاد. ثم أوفدَتْه الجامعة المصرية إلى فرنسا، وهناك أَعَدَّ أُطروحةَ الدكتوراه الثانية: «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون»، واجتاز دبلوم الدراسات العليا في القانون الرُّوماني. وكان لزواجه بالسيدة الفرنسية «سوزان بريسو» عظيم الأثر في مسيرته العلمية والأدبية؛ حيث قامَتْ له بدور القارئ، كما كانت الرفيقة المخلِصة التي دعمَتْه وشجَّعَتْه على العطاء والمُثابَرة، وقد رُزِقَا اثنين من الأبناء: «أمينة» و«مؤنس». وبعد عودته من فرنسا، خاض غِمار الحياة العملية والعامة بقوة واقتدار؛ حيث عمل أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني بالجامعة المصرية، ثم أستاذًا لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب، ثم عميدًا للكلية. وفي ١٩٤٢م عُيِّن مستشارًا لوزير المعارف، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية. وفي ١٩٥٠م أصبح وزيرًا للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم وإلزاميته، وكان له الفضل في تأسيس عددٍ من الجامعات المصرية. وفي ١٩٥٩م عاد إلى الجامعة بصفة «أستاذ غير متفرِّغ»، وتسلَّمَ رئاسة تحرير جريدة «الجمهورية». أثرى المكتبةَ العربية بالعديد من المؤلَّفات والترجمات، وكان يكرِّس أعمالَه للتحرُّر والانفتاح الثقافي، مع الاعتزاز بالموروثات الحضارية القيِّمة؛ عربيةً ومصريةً. وبطبيعة الحال، اصطدمت تجديديةُ أطروحاته وحداثيتُها ببعضِ الأفكار السائدة، فحصدت كبرى مُؤلَّفاته النصيبَ الأكبر من الهجوم الذي وصل إلى حدِّ رفع الدعاوى القضائية ضده. وعلى الرغم من ذلك، يبقى في الذاكرة: «في الأدب الجاهلي»، و«مستقبل الثقافة في مصر»، والعديد من عيون الكتب والروايات، فضلًا عن رائعته «الأيام» التي روى فيها سيرته الذاتية. رحل طه حسين عن دُنيانا في أكتوبر ١٩٧٣م عن عمرٍ ناهَزَ ٨٤ عامًا، قضاها معلِّمًا ومؤلِّفًا وصانعًا من صنَّاع النور. محمد كرد علي: مفكر وأديب سوري، دافَع طوال عمره عن اللغة العربية، وشدَّد على ضرورة الاعتناء بها في مراحل التعليم. كان وزيرًا للمعارف والتربية في سوريا، وتولَّى أيضًا رئاسة مَجمع اللغة العربية بدمشق. وُلد «كرد علي» بدمشق عام ١٨٧٦م لأبٍ كردي وأمٍّ شركسية، وتلقَّى تعليمًا تقليديًّا؛ حيث حفظ القرآن الكريم وتعلَّم القراءة والكتابة بالكُتَّاب، ثم درس المرحلة الإعدادية في المدرسة الرشدية حيث تعلَّم فيها التركية والفرنسية، ثم أتمَّ تعليمه الثانوي في المدرسة العازرية للراهبات بدمشق. كان شديد الشغف بالقراءة والاطِّلاع؛ فكان والِده يُمدُّه بالكثير من الكتب المختلفة الموضوعات. درس على يد العديد من علماء دمشق المعروفين، وقرأ عليهم كتبَ الأدب واللغة والبلاغة والتاريخ والفقه والفلسفة؛ فحاز ثقافة رفيعة وموسوعية. تُوفِّي والده وهو في الثانية عشرة من عمره، فحمل مسئولية نفسه صغيرًا، وعمل كاتبًا في سن السابعة عشرة في قلم الأمور الأجنبية؛ حيث كان يُجيد الفرنسية والتركية. عُهِد إليه بتحرير جريدة «الشام» الحكومية بسوريا عام ١٨٩٧م لمدة ثلاث سنوات، وكان كذلك يرسل مقالاته إلى جريدة «المقتطف» الشهيرة؛ فوصلت شهرته إلى مصر. سافر إلى مصر عام ١٩٠١م حيث تولَّى رئاسة تحرير جريدة «الرائد المصري»، ولكنه عاد بعد عدة شهور إلى دمشق فرارًا من وباء الطاعون الذي انتشر في مصر آنذاك، ثم عاد إلى مصر عام ١٩٠٦م لينشئ مجلة «المقتبس» الشهرية؛ حيث نشر فيها البحوث العلمية والأدبية والتاريخية، بجانب تحريره جريدة «الظاهر» اليومية، كما عمل أيضًا بجريدة «المؤيد» التي كانت كبرى الجرائد بالعالَم الإسلامي في هذا الوقت. ألَّف العديد من الكتب التي احتفَت بالحضارة العربية والإسلامية، كما ترجم بعض الكتب عن الفرنسية مثل كتاب «تاريخ الحضارة»، ووضع كتابًا عن مشاهداته في فرنسا سمَّاه «غرائب الغرب». أنشأ «كرد علي» أول مَجمع للُّغة العربية بدمشق عام ١٩١٩م، وظل رئيسًا له حتى وفاته. تُوفِّي «كرد علي» عام ١٩٥٣م ودُفن بدمشق بجوار قبر «معاوية بن أبي سفيان». علي مصطفى مشرفة: عالِمُ فيزياء مِصريٌّ كبير، لُقِّب ﺑ «أينشتاين العرب» لنبوغه في الفيزياء النووية. مُنِح لقبَ أستاذ من جامعة القاهرة وهو دون الثلاثين من عمره، وانتُخِب في عام ١٩٣٦م عميدًا لكلية العلوم، فأصبح بذلك أولَ عميدٍ مِصري لها، وتتلمذ على يده مجموعة من أشهر علماء مصر، من بينهم سميرة موسى. وقد حصل على لقب البشاوية من الملك فاروق. وُلِد علي مصطفى مُشَرَّفة في الحادي عشر من يوليو عام ١٨٩٨م في مدينة دمياط، وكان الابنَ الأكبر لمصطفى مشرفة؛ أحدِ وُجَهاء تلك المدينة وأثريائها. تلقَّى دروسَه الأولى على يد والده ثم في مدرسة «أحمد الكتبي»، وكان دائمًا في مقدمة أقرانه. نشأ في أسرة غنية، إلا أنَّ والده تعرَّض لخَسارةٍ كبيرةٍ وتُوفِّي على إثْرِها، فاضطرَتِ الأسرةُ إلى الانتقال إلى القاهرة. الْتَحقَ مُشرَّفة بمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، ثم بالمدرسة السعيدية بالقاهرة حتى تخرُّجه فيها عامَ ١٩١٤م وكان ترتيبه الثاني على القُطْر المصري. انتسب إلى دار المُعلِّمين العليا وتخرَّجَ فيها بعد ثلاث سنوات بالمرتبة الأولى؛ ممَّا أهَّلَه للسفر في بعثةٍ عِلْمية إلى بريطانيا على نَفقةِ الحكومة. تخرَّجَ عامَ ١٩١٧م في جامعة نوتنجهام الإنجليزية، ثم حصل على الدكتوراه من الكلية الملكية في فلسفة العلوم عامَ ١٩٢٣م، ثم حصل عامَ ١٩٢٤م على دكتوراه العلوم من جامعة لندن؛ وهي أعلى درجة علمية في العالَم لم يَتمكَّن من الحصول عليها سوى ١١ عالِمًا في ذلك الوقت، ثُمَّ عُيِّن أستاذًا للرياضيات في مدرسة المعلمين العليا، ثم للرياضة التطبيقية في كلية العلوم بالقاهرة ١٩٢٦م. أثرى الدكتور علي مصطفى مُشرَّفة الحياةَ العِلمية المصرية بالكثير من المُؤلَّفات، من أهمها: «الميكانيكا العِلْمية والنظرية»، و«الهندسة الوصفية»، و«مطالعات علمية»، و«الهندسة المستوية والفراغية»، و«حساب المثلثات المستوية»، و«الذرة والقنابل الذرية»، و«العلم والحياة»، و«الهندسة وحساب المثلثات»، و«نحن والعلم»، و«النظرية النسبية الخاصة». تُوفِّي في ١٥ يناير ١٩٥٠م إثرَ أزمةٍ قلبية، ويُشاع أنه تُوفِّي مسمومًا، وقيل إن أحد مندوبي الملك فاروق كان وراء وفاته، كما قيل أيضًا إنها إحدى عمليات جهاز الموساد الإسرائيلي.