«أصبح الجنس شيئًا فشيئًا موضوع الشُّبهة الكبيرة، والمعنى الشامل والمُقلِق الذي يجتاز — رغمًا عنَّا — تصرُّفاتنا وحياتنا؛ نقطة الضَّعف التي منها تنفذ إلينا مَخاطر الشر، وذلك الجزء من الليل الذي يحمله كلٌّ منَّا في ذاته. الجنس هو دلالة شاملة، وسِرٌّ عام، وسببٌ حاضر في كل موجود، وخوف لا ينقطع.»يسعى «فوكو» في الجزء الأول من مشروعه الكبير «تاريخ الجنسانية» إلى إحداث قطيعة مع ما يسمِّيه «الفرضية القَمعية»، التي تتصوَّر الواقع الجنسي في المجتمع الغربي في فترة ما بعد العصر الفيكتوري بوصفه واقعًا سُفليًّا خفيًّا تُمارَس عليه تأثيراتٌ جذرية من سُلطةٍ فَوقية تَقمعه وتعمل على مُحاصَرته وحَظْره. يدحض «فوكو» هذا التصوُّر الذي شاع بين المؤرِّخين، ويؤكِّد على أن المجتمع الذي نَما في مطلع القرن التاسع عشر لم يُجابِه الجنس ولم يَرفض الاعترافَ به، بل على العكس من ذلك، استخدَم جهازًا كاملًا بشبكة مترابطة وكبيرة أنتجَت خطابات حقيقية ومَعارف حول النشاط الجنسي، هذا الجهاز هو ما يَعنيه ﺑ «الجنسانية»، وهي التي تتعلَّق بها «إرادة المعرفة»؛ أيْ معرفة النشاط الجنسي وضَبْطه.
ميشيل فوكو: هو واحدٌ من أبرز الفلاسفة الفرنسيين في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان لكتاباته وتصوراته الفلسفية أثرٌ بالغ في المجال الثقافي والعلوم الإنسانية والاجتماعية. وُلد «بول ميشيل فوكو» عام ١٩٢٦م بفرنسا، لأبٍ طبيب جرَّاح، ولكنه لم يَرِث مهنة أبيه؛ إذ كان محبًّا بشِدة لدراسة الفلسفة وعلم النفس. تخرَّج في مدرسة الأساتذة العليا، وحصل منها على إجازة في الفلسفة وأخرى في علم النفس، وانضمَّ فور تخرُّجه إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي في عام ١٩٥٠م، وظلَّ به ثلاث سنوات. حصل على شهادة الأستاذية عام ١٩٥٠م، ثم عمل محاضرًا في المدرسة العليا، لكنه ترَكها بعد فترة قصيرة حيث عُيِّن محاضرًا في علم النفس بجامعة ليل، وفي عام ١٩٥٤م انتُدِب للعمل بالتدريس في جامعة أوبسالا بالسويد، ثم غادَرها عام ١٩٥٨م ليعمل بالتدريس في جامعتَي وارسو وهامبورغ. عاد إلى فرنسا عام ١٩٦٠م ليتابع دراستَه للدكتوراه التي نالها في العام التالي، وكان أول عميد لقسم الفلسفة بالجامعة التجريبية التي أسَّستها الحكومة الفرنسية في عام ١٩٦٨م بفنسن، لكنه لم يستمر في منصبه طويلًا حيث عُيِّن مستشارًا في تاريخ نظام الفكر في هيئة الكوليدج دو فرانس، وهي تُعَد أهم هيئة أكاديمية في فرنسا، كما عمل صحفيًّا في إحدى الصحف الإيرانية. ألَّف العديدَ من الكتب الفلسفية التي حازت قَبولًا واسعًا من القرَّاء، وأُثيرت حولها الكثير من النقاشات، من أبرزها: «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، و«حُب الغلمان عند اليونان»، و«تاريخ الجنسانية»، و«المرض العقلي والشخصية»، و«أركيولوجيا المعرفة»، هذا فضلًا عن مؤلَّفه الأدبي «الموت والمتاهة: عالَم ريمون روسيل»، إلى جانب مقالاته ودراساته في مجالَي الفلسفة وعلم النفس. تُوفِّي «ميشيل فوكو» عامَ ١٩٨٤م.