كعادَتِه يُقدِّمُ «جبران خليل جبران» عَمَلًا يُشبِهُ المَلْحمةَ الأَدبِيَّة، يَجمَعُ بَينَ الخَيالِ والفَلْسفة، والمُتْعةِ والتَّشْوِيق؛ فيَتخيَّلُ الكاتِبُ أنَّ لِلأَرْضِ ثَلاثةَ آلِهَة، يَدُورُ بَينَهُم حِوارٌ بِلُغةٍ شِعْريةٍ بَلِيغة، يَتحدَّثُونَ فِيهِ عَنِ الوُجُودِ الإِنْسانِي، والهَدفِ مِنَ الحَياة، والمَتاعِبِ الَّتِي يُعايِشُها الإِنْسانُ فِي مَراحِلِ حَياتِهِ المُخْتلِفة، بَدْءًا مِنَ الوِلَادة، مُرورًا بالطُّفولَةِ والشَّباب، وحتَّى الكُهُولةِ والوَفاة، والبَعْث، والخُلُود، والأَبَديَّةِ. ومِن خِلالِ أَحْداثِ الحِكايةِ المُغرِقةِ فِي الخَيَال، يَختلِفُ الآلِهةُ في وِجْهاتِ النَّظَر فيَحْتَدُّ الحِوَار، مُوضِّحًا التَّوَجُّهاتِ المُخْتلِفة، الَّتِي تَعكِسُ أَنْماطًا مُتعدِّدةً مِنَ الفَلْسفةِ الوُجُودِيَّة، فيَجِدُ القارِئُ بَينَ يدَيْهِ قِطْعةً فَنيَّةً أَدبِيَّةً مُتميِّزة.
جبران خليل جبران: شاعرٌ وقاصٌّ وفنانٌ، وأديبٌ لبناني، وأحدُ روَّادِ النهضةِ في المنطقةِ العربية، ومن كبارِ الأدباءِ الرمزيِّين. هو «جبران بن خليل بن ميخائيل بن سعد»، وُلِدَ في بلدةِ «بشري» بشمالِ لبنانَ عامَ ١٨٨٣م، لعائلةٍ مارونيةٍ فقيرة. سافَرَ منذ صِغَرِهِ مع عائلتِهِ إلى الولاياتِ المتَّحدةِ عامَ ١٨٩٥م، وهناك تَفشَّى داءُ السُّلِّ في أسرتِه، فماتوا الواحدُ تِلْوَ الآخَر، وعلى إثرِ ذلكَ عانى جبران معاناةً نفسيةً ومادِّيَّةً كبيرة، إلى أنْ تعرَّفَ على سيدةٍ تُدْعَى «ماري هاسكل»؛ حيث أُعجِبتْ بفنِّه فتبنَّتْه ومنحَتْه الكثيرَ من مالِها وعطفِها. درَسَ جبران فنَّ الرسمِ في الولاياتِ المتَّحدة، وتعمَّقَ في دراستِهِ عندما سافَرَ إلى فرنسا فيما بعدُ، وكانَ — إضافةً إلى كونِهِ فنانًا بارعًا وأديبًا وقاصًّا متميزًا — صاحِبَ مدرسةٍ أدبيةٍ تحمِلُ لونًا خاصًّا؛ حيث اتَّسَمَ جبران بسِعَةِ الخيالِ وعُمْقِ التفكيرِ وغزارةِ الإنتاج، والأسلوبِ السهلِ الجامعِ بينَ حرارةِ الوِجْدان، وجمالِ الصورة، والتأثُّرِ بالطبيعة، والالتزامِ برسمِ المعنى مع إحاطتِهِ بهالةٍ من الغموض؛ حيث تُعَدُّ سَرْديَّاتُه رمزيَّةً إلى حَدٍّ كبير؛ مما يُثيرُ الذهنَ والفكرَ لدى المتلقِّي. للحبِّ في حياةِ جبران مكانةٌ كبيرة؛ فهو — على غِرارِ الشعراءِ العُذْريِّينَ العرب، والرومانسيِّينَ في الغرب — يؤمِنُ بقضاءِ الحبِّ وقَدَريَّتِهِ التي لا قِبَلَ للإنسانِ بِرَدِّها أو تجنُّبِها، وقد كانتْ لجبرانَ حكاياتٌ كثيرةٌ في هذا العالَم؛ حيث أحَبَّ اثنتَيْ عشرةَ امرأةً، مِنهُنَّ تِسْعٌ يَكْبُرْنَهُ سنًّا، ومن هؤلاءِ النسوةِ ماري قهوجي، وماري خوري، وكورين روزفلت (أخت الرئيس الأمريكي)، ولكن كانتْ حكايةُ حُبِّهِ الأشهرِ مع الأديبةِ مي زيادة، التي لم يَرَها ولم تَرَهُ قط، فكانَتِ المُراسَلاتُ والخطاباتُ بينهما هي اللِّقاء. التفَّ حوْلَ جبران العديدُ من الأدباءِ والشعراءِ السوريِّينَ واللبنانيِّين، كميخائيل نعيمة، وعبد المسيح حدَّاد، ونسيب عريضة، وأنشَئوا معًا ما سمَّوْهُ «الرَّابِطة القَلَميَّة»، التي أرادوا من خلالِها تجديدَ الأدبِ العربيِّ وإخراجَهُ من مستنقعِهِ الآسِن، وقد أُسِّسَتْ هذه الرابِطةُ في منزلِهِ عامَ ١٩٢٠م، وانتخبوهُ عميدًا لها. تُوفِّيَ جبران خليل جبران في نيويورك عامَ ١٩٣١م، بسببِ مرضِ السُّلِّ وتلَيُّفٍ أصابَ الكَبِد، وقد تَمنَّى جبران أن يُدفَنَ في لبنان، وتحقَّقَتْ له أمنيتُهُ عامَ ١٩٣٢م؛ حيث نُقِل رُفاتُه إليها، ودُفِنَ هناك فيما يُعرَفُ الآن باسمِ متحف جبران.