إذا كان مَبلَغ البلاغة أن تُعبِّر عن أجَلِّ المعاني بأفصح العبارات وأجملها، وكانت الرسائل أبلغَ رُسلِ الكلمة؛ تُوصلها إلى مُتلقِّيها بسرعةٍ وحميمية، فتَبلغ منه العقلَ والقلب، فما بالُك إن أرسَل الرسائلَ البلغاءُ أنفسهم! بعينِ أديبٍ ذوَّاقة مُتوقِّد الذهن، يَجمع «محمد كرد علي» مجموعةً شديدةَ التفرُّد من «رسائل البلغاء» التي يَدور معظمها في فَلك المُكاتَبات بين الصاحب وصاحبه، والأخ وأخيه، صدَّرها بدُرر «ابن المُقفع»؛ «الأدب الصغير» و«اليتيمة» وغيرهما، وضمَّنها «رسائل الحكمة» التي صاغها «عبد الحميد الكاتب»، و«الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة» ﻟ «أبي اليسر المدبر»، و«ملقى السبيل» ﻟ «أبي العلاء المعري»، ورسالة «ابن القارح» إليه التي تُعَد مفتاحًا لفَهم «رسالة الغفران»، كما أضاف «مسائل الانتقاد» ﻟ «ابن شرف القيرواني»، و«كتاب الأدب والمروءة» ﻟ «صالح بن جناح الربعي»، وغيرها من رسائل بُلَغاء العرب الأفذاذ.
محمد كرد علي: مفكر وأديب سوري، دافَع طوال عمره عن اللغة العربية، وشدَّد على ضرورة الاعتناء بها في مراحل التعليم. كان وزيرًا للمعارف والتربية في سوريا، وتولَّى أيضًا رئاسة مَجمع اللغة العربية بدمشق. وُلد «كرد علي» بدمشق عام ١٨٧٦م لأبٍ كردي وأمٍّ شركسية، وتلقَّى تعليمًا تقليديًّا؛ حيث حفظ القرآن الكريم وتعلَّم القراءة والكتابة بالكُتَّاب، ثم درس المرحلة الإعدادية في المدرسة الرشدية حيث تعلَّم فيها التركية والفرنسية، ثم أتمَّ تعليمه الثانوي في المدرسة العازرية للراهبات بدمشق. كان شديد الشغف بالقراءة والاطِّلاع؛ فكان والِده يُمدُّه بالكثير من الكتب المختلفة الموضوعات. درس على يد العديد من علماء دمشق المعروفين، وقرأ عليهم كتبَ الأدب واللغة والبلاغة والتاريخ والفقه والفلسفة؛ فحاز ثقافة رفيعة وموسوعية. تُوفِّي والده وهو في الثانية عشرة من عمره، فحمل مسئولية نفسه صغيرًا، وعمل كاتبًا في سن السابعة عشرة في قلم الأمور الأجنبية؛ حيث كان يُجيد الفرنسية والتركية. عُهِد إليه بتحرير جريدة «الشام» الحكومية بسوريا عام ١٨٩٧م لمدة ثلاث سنوات، وكان كذلك يرسل مقالاته إلى جريدة «المقتطف» الشهيرة؛ فوصلت شهرته إلى مصر. سافر إلى مصر عام ١٩٠١م حيث تولَّى رئاسة تحرير جريدة «الرائد المصري»، ولكنه عاد بعد عدة شهور إلى دمشق فرارًا من وباء الطاعون الذي انتشر في مصر آنذاك، ثم عاد إلى مصر عام ١٩٠٦م لينشئ مجلة «المقتبس» الشهرية؛ حيث نشر فيها البحوث العلمية والأدبية والتاريخية، بجانب تحريره جريدة «الظاهر» اليومية، كما عمل أيضًا بجريدة «المؤيد» التي كانت كبرى الجرائد بالعالَم الإسلامي في هذا الوقت. ألَّف العديد من الكتب التي احتفَت بالحضارة العربية والإسلامية، كما ترجم بعض الكتب عن الفرنسية مثل كتاب «تاريخ الحضارة»، ووضع كتابًا عن مشاهداته في فرنسا سمَّاه «غرائب الغرب». أنشأ «كرد علي» أول مَجمع للُّغة العربية بدمشق عام ١٩١٩م، وظل رئيسًا له حتى وفاته. تُوفِّي «كرد علي» عام ١٩٥٣م ودُفن بدمشق بجوار قبر «معاوية بن أبي سفيان».