«وجلستُ بجوار زكريا الحجاوي بعد أن قدَّمني إلى الجالسين قائلًا: الأستاذ محمود السعدني الكاتب الفنَّان! … وشعرتُ بخجلٍ شديد وغيظٍ أشد؛ فقد ظننت أنه يَسخر مني! فلم أكُن أستاذًا، ولم أشعر يومًا ما بأنني كاتب أو فنَّان، وكنت أخجل من عرضِ إنتاجي على أحد.»ارتبطَت المقاهي بالحركة الأدبية؛ ففيها يلتقي الأدباء، وتُلقى الندوات، ويتتلمذ كُتابٌ حديثو العهدِ بالكتابة على أيدي أدباءَ كِبار نقَشوا أسماءَهم في عالَم الأدب حتى صار يُعرف بهم، وكان من أشهر هذه المقاهي «قهوة عبد الله» في الجيزة، التي تردَّد عليها الكثيرُ من كُتاب الأدب والصحافة، وكان من بين روَّادها الأديبُ الساخر «محمود السعدني»، وفيها تعرَّف على الكثير من رجال الصحافة والأدب في عصره، وكان للكثير منهم فضلٌ عليه لا يُنكِره، وكان بعضهم سببًا في جرحٍ لا ينساه وإن كان يَغفره. وقد جاء هذا الكتاب سِجلًّا حافلًا بالعديد من هذه الشخصيات، فنتعرَّف عن كثَب على جانبهم الإنساني، ومبادئهم التي دفعوا ثمنَها غاليًا، والمصائرِ التي آلَ إليها أمرُهم، والإنتاج الذي قدَّموه.
محمود السعدني: صحفيٌّ مصري، ورائد من روَّاد الكتابة الساخرة في الوطن العربي، شارَك في تحريرِ العديد من الصُّحف والمجلات وتأسيسِها، سواء داخل مصر أو خارجها. وُلد «محمود عثمان إبراهيم السعدني» في محافظة المنوفية عام ١٩٢٧م. امتهن الصحافةَ فور تخرُّجه في الجامعة، وعمل في العديد من الجرائد والمجلات الصغيرة، ومنها مجلة «الكشكول» التي كان يُصدِرها «مأمون الشناوي»، كما عمل بالقطعة في جريدتَي «المصري» و«دار الهلال». بدأ عمله الصحفي في جريدة «الجمهورية» عقِبَ اندلاعِ ثورة يوليو ١٩٥٢م التي كان من مؤيِّديها، وكانت هذه الجريدة حينذاك لسانَ حالِ الثورة، واستمرَّ عمله بها لسنواتٍ قبل أن يُستغنى عنه مع العديد من زملائه، فانتقل بعد ذلك ليتولَّى إدارةَ مجلة «روز اليوسف»، كما تولَّى رئاسةَ تحريرِ مجلة «صباح الخير» المصرية. اشتُهِر بكتاباته الصحفية الساخرة ونقده اللاذع، وقد تعرَّض للسَّجْن بسبب كتاباته الساخرة عن الرئيس أنور السادات؛ حيث نُسِبت إليه تهمةُ الاشتراك في محاوَلات الانقلاب على حكم الرئيس فيما عُرِف آنذاك ﺑ «ثورة التصحيح» عام ١٩٧١م، وظلَّ بالسجن عامَين حتى أُفرِج عنه بعفوٍ رئاسي، ولكنه مُنِع تمامًا من مزاوَلة مهنة الصحافة داخل مصر، فاضطرَّ إلى الخروج من البلاد وسافَر إلى أكثر من دولة، ومنها لندن حيث أصدَر بها مجلة «٢٣ يوليو» الساخرة، التي حقَّقت نجاحًا كبيرًا في الوطن العربي، لكنه قرَّر العودة مرةً أخرى إلى مصر بعد موت الرئيس أنور السادات عام ١٩٨٢م، وعاد إلى عمله الصحفي مرةً أخرى. قدَّم للمكتبة المصرية والعربية العديدَ من الأعمال الأدبية المتميِّزة والمتنوِّعة، ومن أهمها: «مسافر على الرصيف»، و«الموكوس في بلاد الفلوس»، و«وداعًا للطواجن»، و«رحلات ابن عطوطة»، و«أمريكا يا ويكا»، و«حمار من الشرق»، و«قهوة كتكوت» وغيرها الكثير. فارَق «محمود السعدني» الحياةَ في عام ٢٠١٠م عن عمرٍ ناهز ٨٢ عامًا، تارِكًا وراءَه إرثًا كبيرًا من الأعمال الأدبية التي ستظلُّ تحظى بتقديرٍ وإعجابٍ كبيرَين.