«كنت أعتقد بحماقتي … أن المدينة التي يُسمُّونها روما تُشبه بلادَنا التي اعتدنا — نحن الرعاةَ — أن نَسوقَ إليها نسلَ أغنامنا الهزيل. كما كنت أعلم أن الجِراء تُشبه الكلاب، والأطفال الأمهات، فتعوَّدت بذلك على مقارنة الأشياء الكبيرة بالصغيرة، بَيدَ أن هذه المدينة قد رفعَت رأسها عاليًا حقيقةً بين المدن الأخرى، كما اعتادَت أشجار السَّرْو أن تفعلَ وسطَ أشجار الصَّفصاف البضَّة.» تحتلُّ الأناشيد مكانةً خاصةً في الشعر الكلاسيكي، فبينما اعتاد الإنتاج الأدبي اليوناني والروماني أن يتناول الحرب والآلهة، فإذا «فرجيل» يَرحل بشِعره إلى جانبٍ آخَر لا يقلُّ أهميةً في حياة الروماني القديم عن الأساطير وحكاياتها؛ ففي الطبيعة رأى «فرجيل» نفسَه أسيرًا لسِحرها؛ فوجد نفسَه يكتب عن الأرض والزراعة والرعي وغيرها من الأمور الحياتية التي يُعنى بها الرجلُ البسيط في حياته، فصاغ لنا كتابًا أدبيًّا فريدًا في نوعه، يفيض بالمشاعر الإنسانية، ويُفسِّر التغييرات الكبيرة التي حدثَت في المجتمع الروماني في الفترة المضطربة التي شهدَتها روما ٤٤–٣٨ق.م. ويتكوَّن الكتاب من ١٠ أناشيد كلٌّ منها يُقابله النصُّ اللاتيني الذي تَرجم عنه «أمين سلامة»، وهي طريقةٌ لا يتبعها إلا مَن يثق في ترجمته، ويُقدِّر حقَّ القارئ في الاطلاع على النص الأصلي.
فيرجيل: شاعر روماني، تَميَّز شعرُه بالإبداع والابتكار؛ فاستحقَّ عن جدارةٍ لقبَ أمير الشعراء وكبير العلماء وسيِّد العارفين ونبي الملهمين. وُلِد «بوبليوس فيرجيليوس مارو» المشهور ﺑ «فيرجيل»، في ١٥ أكتوبر ٧٠ق.م. بمانتوا شمال إيطاليا، وترعرع وسطَ عائلةٍ مُزارِعة؛ حيث كان والده يعمل أجيرًا لدى أحد الحكَّام المحليين، واستطاع بجِدِّه ونشاطه أن يكسب عطفَ سيده وتقديره، فزوَّجه ابنته، وقد ساعَدَه هذا الزواجُ كثيرًا في تحسين حاله، وتَمكَّن من مُضاعَفة دخله الضئيل شيئًا فشيئًا بأن استأجرَ قطعةً من الأحراش وربَّى فيها النحل، فقضى «فيرجيل» طفولتَه في بيئةٍ هادئة، وظلت أشجارُ الشمال الظليلة ومياهُها الغزيرة عالقةً بخياله، وقد انعكس ذلك بشكلٍ واضح في أعماله. وفي سن الثانية عشرة من عمره أُرسِل إلى المدرسة في كريمونا، ثم أُرسِل في سن الرابعة عشرة إلى ميلان، ثم روما، حيث درس البلاغة والشِّعر اللاتيني والطب والرياضيات والفلسفة. وكان واسعَ الاطِّلاع، وقد بدأ كتابةَ الشِّعر في سِنٍّ مبكرة، وانتشر شِعره في أنحاء روما واليونان، وحاز شهرةً واسعة لأنه كان يكتب بلغةٍ بطولية فتمتَّع برعاية «مسيسيناس»، ونَعِم بحب «أغسطس» وتقديره. قدَّم للإنسانية إرثًا شِعريًّا غاية في الرقة والبلاغة، أشهره ملحمة «الإنياذة» التي كتبها طوال إحدى عشرة سنة، في اثني عشر كتابًا، وتَتحدَّث عن قصة أمير طروادة الذي يفر بعد تدمير طروادة من قِبل اليونانيين. وبالرغم من أنه تُوفِّي قبل إنهائها، فإنها كانت مصدرَ إلهام العديد من الشعراء مثل: «أوفيد» و«جون ميلتون». وفي سنة ٢٠ق.م. سافَر إلى اليونان، حيث كان يُخطِّط لإمضاء السنوات الثلاث التالية في إنهاء «الإنياذة»، لكنه أُصِيب بالحمى، فاضطرَّ للعودة إلى إيطاليا حيث تُوفِّي في ٢١ سبتمبر ١٩ق.م.