الحنينُ إلى الأوطان قديمٌ قِدَمَ الأوطان نفسها. ولمَّا كان لدى «الجاحظ» طائفةٌ من أخبار العرب في شأن ارتباطهم بأوطانهم؛ مَساقطِ رءوسهم ومَهاوي أفئدتهم، أراد أن يُؤلِّف ويَجمع أجملَها وأبدعها، ناقلًا إلى القارئ صورةَ البدويِّ الذي تُغرِّبه الحواضرُ فيَتُوق إلى قَيْظ البادية، وظلِّه المحدود على أرضها الشاسعة، وإلى عصاه المُنغرِزة في بواطنها، وأفكارِه المحلِّقة في سَمَواتها. وكذلك يَصِف «الجاحظ» حالَ الملوك والجبابرة إذا حملَتهم الأسفار الماتعة بعيدًا عن أرض ميلادهم التَّلِيدة، فلربَّما اصطحب بعضُهم في ارتحالاتهم حَفناتٍ من تربة الوطن يَتقوَّون بتَنشُّقها على وجع البِعاد، ويُوصي آخرون ذويهم بأن يدفنوهم في مَغرسهم الأوَّل إذا ما باغَتهم الموتُ في بلاد الغُربة، بينما يَعُد بعضُهم المغتربين في عِداد الهالكين، فكما قيل: «الغريبُ كالغَرْس الذي زايَل أرضَه، وفقَدَ شِربه، فهو ذاوٍ لا يُثمِر، وذابلٌ لا يَنضُر.»
الجاحِظ: أديبٌ عربيٌّ من أئمةِ الأدبِ في العصرِ العباسي، له آثارٌ جليلةٌ تُعدُّ من المُكوِّناتِ الرئيسيةِ للثقافةِ العربية، وتعتزُّ بها المَكتباتُ العربيةُ حتَّى اليوم. وُلِدَ «أبو عثمانَ عمروُ بنُ بحرِ بنِ محبوبِ بنِ فزارةَ» الليثيُّ الكنانيُّ البَصْري، المُلقَّبُ ﺑ «الجاحِظ»، في البصرةِ إبَّانَ خلافةِ المَهْدي، عامَ ١٥٩ﻫ الموافِقَ ٧٧٦م — على الأرجحِ — واختُلِفَ في أصلِه، فقيلَ إنهُ عربيٌّ من قبيلةِ كنانة، وقيلَ إنَّ أصلَهُ زنجيٌّ وإنَّ جَدَّهُ كانَ مَوْلًى لرجلٍ من بَني كنانة. كانَ ثمةَ جُحوظٌ واضِحٌ في حدقتَيهِ فلُقِّبَ ﺑ «الحَدَقي»، ولكنَّ اللقبَ الذي اشتُهِرَ به هو «الجاحِظ». طلَبَ العلمَ في سِنٍّ مبكِّرة، فقرأَ القرآنَ ومبادئَ اللغةِ على شيوخِ بلدِه، ولكنَّ اليُتمَ والفقرَ حالَا دونَ تفرُّغهِ لطلبِ العِلم، فصارَ يبيعُ السمكَ والخبزَ في النهار، ويترددُ على دكاكينَ الورَّاقينَ في الليلِ فيقرأُ منها ما يَستطيع. أخذَ اللغةَ العربيةَ وآدابَها على يدِ «أبي عبيدة» مؤلِّفِ كتابِ «نقائِض جرير والفرزدق»، و«الأصمعي» صاحبِ الأصمَعيَّات، و«أبي زيد الأنصاري»، ودرَسَ النحوَ على يدِ «الأخفش»، وعِلمَ الكلامِ على يدِ «إبراهيم بن سيَّار البصري». كان متَّصلًا كذلكَ بالثقافاتِ غيرِ العربية؛ كالفارسيةِ واليونانيةِ والِهندية، عن طريقِ قراءةِ أعمالٍ مترجَمةٍ أو مُناقَشةِ المُترجِمينَ أنفسِهم، ﻛ «حنين بن إسحاق» و«سلمويه»، وربَّما كانَ يُجيدُ اللغةَ الفارِسيَّة؛ لأنهُ دوَّنَ في كتابهِ «المحاسن والأضداد» بعضَ النصوصِ باللغةِ الفارسيَّة. وقد توجَّهَ إلى بغداد، وفيها تميَّزَ وبرَز، وتصدَّى للتدريس، وتولَّى ديوانَ الرسائلِ للخليفةِ المأمون. انتهَجَ الجاحظُ في كُتبِهِ ورسائلِهِ أسلوبًا بحثيًّا يعتمدُ على الشكِّ والاستِقراء، رآهُ النُّقادُ على جانبٍ كبيرٍ من الضبطِ والتَّدقيق، وقد تميَّزَ بعقليَّةٍ نقديَّةٍ بارِعة، جعلتْهُ يُعبِّرُ عن أفكارِهِ بحسٍّ تهكُّميٍّ ساخِر، إلى جانبِ اتِّباعِه منهجَ التجريبِ فيما يتعلَّقُ بالعلومِ الطبيعية. وكانَ إنتاجُهُ شديدَ الغَزارةِ يَصعُبُ حَصرُه، ومِن أشهرِ كُتبِه: «البَيان والتبْيين»، و«الحَيَوان»، و«البُخَلاء»، وغَيرُها كثيرٌ في عِلمِ الكلامِ والأدبِ والسياسيةِ والتاريخِ والأخلاقِ والنباتِ والحيوانِ والصناعةِ وغيرِها. تُوفِّيَ الجاحظُ عامَ ٢٥٥ﻫ الموافقَ ٨٦٨م، حينَ كانَ جالسًا في مكتبتِه فوقعَ عليهِ صفٌّ مِنَ الكُتبِ أَرْداهُ قتيلًا، فقَضى نحْبَه مدفونًا تحتَ الكُتبِ التي أحبَّها، مخلِّفًا وراءَه كتبًا ومقالاتٍ وأفكارًا خالِدة.