هنا تَبدُو كلماتُ «أبي العلاءِ المَعَرِّي» أوضَحَ مرآةٍ لعصرِ الدسائسِ وتعاقُبِ السلاطينِ في العصرِ العباسي. يَتولَّى «كامل كيلاني» في هذا الكتابِ شرْحَ «رِسالة الهناءِ» الأدبيةِ وتحقيقَها؛ وهي الرِّسالةُ التي بعَثَ بها «أبو العلاءِ المَعَرِّي» إلى بعضِ معُاصِرِيه منَ الكُبَراء، والتي يُقالُ إنَّه قد حذَفَ منها أسماءَ السلاطينِ وألقابَهم بعدَ تغيُّرِ العهدِ السياسي، وذلك لقِصَرِ عهودِ السلاطينِ والوزراءِ والولاةِ والأمراءِ في ذلك العصرِ المُضطرِب، المَمْلوءِ بالمَخاطِرِ والأحداثِ والفِتَنِ والدَّسائِس. ورُبَّما آثَرَ «المعريُّ» حذْفَ الأسماءِ والأَلقابِ ليكونَ بذلك قد كفَّرَ عنْ إفراطِه في مُجامَلةِ مَن تورَّطَ في الثناءِ عليهم مِن مُعاصِرِيه، ولأنه لم يَكُنْ يرى مانِعًا في ذلك؛ اتقاءً لِمَا يَخْشاه من أَذِيتِهم، ممَّا يَجعلُ الأجيالَ التي تَقرأُ شِعْرَه بعدَ ذلك تَعُدُّه نوعًا من نفاقِ الحُكَّام. وهو ما دفَعَ الشاعرَ إلى الاعتذارِ في مُقدِّمةِ الرسالةِ عمَّا سمَّاه ﺑ «الكَذبِ الفنِّي» الذي كانَ مِرآةً لعصرٍ فيه الكثيرُ مِنَ الظُّلْمِ والرِّياء.
أبو العلاء المَعَرِّي: شاعرٌ وفيلسوفٌ وأديبٌ عربيٌّ مِنَ العصرِ العبَّاسي، اشتُهِرَ بآرائِه وفلسفتِه المثيرةِ للجدلِ في وقْتِه. وُلِدَ «أحمد بن عبد الله بن سليمان القُضاعي التنُوخي المَعَرِّي» المعروفُ ﺑ «أبي العلاء المَعَرِّي» عامَ ٣٦٣ﻫ بمَعَرَّةِ النُّعمانِ بسُوريا، وفقَدَ بصَرَه وهو صغيرٌ نتيجةً لمَرضِه بالجُدَري. أخَذَ علومَ القراءاتِ القرآنيةِ بإسنادٍ عنِ الشُّيوخ، كما تعلَّمَ الحديثَ في سنٍّ مُبكِّرة، وقالَ الشِّعرَ وهو ابنُ إحدى عشرةَ سنة، ورحلَ إلى بغدادَ عامَ ٣٩٨ﻫ فأقامَ بها سنةً وسبعةَ أَشْهُر، ثُم اعتزَلَ الناسَ لبعضِ الوقت؛ فلُقِّبَ ﺑ «رَهِينِ المَحْبسَيْن»؛ العَمَى والدَّار. أمَّا شِعْرُه، وهو ديوانُ حكمتِه وفلسفتِه، فالمطبوعُ منه حتى الآن: «اللُّزوميَّات»، و«سِقْطُ الزَّنْد». وقد تُرجِمَ الكثيرُ من شِعْرِه إلى غيرِ العربيَّة، وأمَّا كُتبُه فكثيرةٌ وفِهرسُها في «مُعجَمِ الأُدَباء». من تَصانيفِه كتابُ «الأَيْك والغُصُون» في الأدب، يَزيدُ على مائةِ جُزْء، و«تاج الحُرَّة» في النساءِ وأخلاقِهنَّ وعِظاتِهِن، و«عَبَث الوَلِيد» شرَحَ فيه دِيوانَ البُحْتُريِّ ونقَدَه، و«رِسالة المَلائِكة» وهي صَغِيرة، و«رِسالة الغُفْران»، و«الفُصُول والغَايات». عاش المعري متفلسفًا زاهدًا في الدنيا؛ إذ كانَ يَدعمُ حقوقَ الحيوانِ ويُحرِّمُ إِيلامَه، ولذا كان نباتيًا؛ فلمْ يَأكُلِ اللحمَ خمسًا وأربعينَ سنة، كما كانَ يَلبسُ خشِنَ الثِّياب، وكان له أراءه الخاصة في العقيدة، التي جعلت الآراء تختلف حول حقيقة إيمانه؛ إذ ذهب البعض إلى تكفيره واتهامه بالإلحاد، وإخراجِه مِنَ الإسلام، بينما دافَعَ عنه عميدُ الأدبِ العربيِّ «طه حسين» في عِدَّةِ كِتاباتٍ ومُؤلَّفات؛ أشْهرُها «معَ أبي العلاءِ في سجنِه». ظلَّ حبيسًا في بيتِه حتى وفاتِه عامَ ٤٤٩ﻫ بمنزلِه بمَعَرَّةِ النُّعْمان، وقد أَوْصى أن يُكتَبَ على قبْرِه عِبارة: «هذا جَناهُ أبي عليَّ، وما جَنيْتُ على أَحَد.» ويَقصدُ أنَّ أباه بزَواجِه من أمِّه أوْقَعَه في دارِ الدُّنيا. وقد وقَفَ على قبْرِه جمْعٌ غفيرٌ من أُدباءِ عصْرِه وشُعرائِه ورَثَوْه بثمانينَ مَرْثَاة.