«ما أريده هو الحقائق. لا تلقِّن هؤلاء الأولاد والبنات شيئًا غير الحقائق. ولا نحتاج في الحياة إلى أيِّ شيءٍ سوى الحقائق. لا تزرع شيئًا آخَر، واقتلِعْ كلَّ ما عداها. لا يمكنك تكوين عقول الحيوانات العاقلة إلا بالحقائق، الحقائق وحدها، ولا شيءَ غيرها ينفعهم. هذا هو المبدأ الذي أُنشِّئ عليه أطفالي، وهذا هو المبدأ الذي أربِّي بمقتضاه هؤلاء الأطفال. التزِم بالحقائق، يا سيدي!»تدور أحداث الرواية في مدينة صناعية تُسمَّى «كوكيتاون»، يعيش سكَّانها في تناقضٍ اجتماعي صارخ؛ فبينما تعيش طبقةٌ أرستقراطية محدودةُ العدد في رفاهية تامَّة، يعيش الغالبية العظمى من الناس من طبقة العمَّال في فقر شديد. وتُعَد شخصية السيد «جرادجريند» مثالًا حيًّا لسكَّان هذه المدينة؛ فهو رجل لا يؤمن إلا بالمادة، ويرى أن الشعور أو الخيال درب من دروب العبَث، وأن الحقائق هي السبيل الوحيد في الحياة، ويبدأ في تربية ولدَيه «توم» و«لويزا» على هذه المبادئ. وفي مقابل عائلة «جرادجريند» المادية، توجد شخصية «سيسيليا»، ابنة رجل السيرك وتلميذة «جرادجريند»، التي تؤمِن بضرورة الخيال في الحياة، وترى أن المادةَ وحدَها تخلق عالمًا متوحِّشًا يفتقر إلى الإحساس والإنسانية، وأن من الضروري التوازُن بين الواقع والخيال. تتصاعد أحداث الرواية ليكتشف السيد «جرادجريند» فسادَ نظريته، وأن مبدأ «سيسيليا» في الحياة هو الصواب.
تشارلز ديكنز: الرِّوائيُّ الإنجليزيُّ الذائعُ الصِّيت، يُعَدُّ من أعظمِ الروائيِّينَ الإنجليزِ في العصرِ الفيكتوريِّ. تميَّزَ أسلوبُه بالنقدِ اللاذعِ للأوضاعِ الاجتماعيَّة، كما تميَّزَ بقدرةٍ هائلةٍ على السَّرْدِ والتصويرِ المفصَّلِ للأحداثِ والشَّخْصيات، وهو مؤسِّسُ مذهبِ الواقعيَّةِ النقديَّة. وُلِدَ تشارلز جون هوفام ديكنز عامَ ١٨١٢م لأبٍ مُسرفٍ أوقعَه التبذيرُ في الدَّينِ وأُلقيَ به في السجنِ فساءَتْ حالةُ أسرتِه من بعدِه؛ وهو ما دفعَ ديكنز الصغيرَ للعملِ منذُ نعومةِ أظفارِه عاملًا أجيرًا تارةً وموظفًا في مكاتبِ المحامِينَ تارةً أخرى، وعملَ بعدَ ذلك مخبرًا صحفيًّا يكتبُ النُّبذاتِ القصيرةَ للصحفِ والمجلاتِ عَنِ الشخصياتِ والأحداثِ الجارِية، كما عمِلَ مُراسِلًا سياسيًّا يُغطِّي النقاشاتِ البَرْلمانيَّة، ويسافرُ إلى جميعِ أنحاءِ إنجلترا في مَواسمِ الانتخابات. تأثَّرَ ديكنز في طفولتِه بكتاباتِ رُوَّادِ الروايةِ الإنجليزية؛ مثل «هنري فيلدينغ» و«صموئيل ريتشاردسون» و«دانيال ديفو»، فتعلَّمَ منهم تقنياتِ رسْمِ الشخصيةِ الروائيَّة، والقدرةَ على إحكامِ الحَبْكة، كما قرأَ العديدَ مِنَ الكلاسيكياتِ الأدبيةِ الأخرى مثل «أَلْف لَيْلةٍ ولَيْلة» ومُؤلَّفاتِ «شكسبير»، وقد أثْرَتْ هذه المَصادرُ الأدبيةُ والفكريةُ خيالَ الكاتبِ وقدرتَه على الإبداع، إلَّا أنَّ عملَه الصحفيَّ زادَ — في ذاتِ الوقت — من واقعيَّتِه، وهذا المزيجُ مكَّنَه من أن يُخرِجَ لنا نوعًا جديدًا مِنَ السردِ الأدبيِّ عُرِفَ بالواقعيةِ النقدية؛ حيثُ كانَ دقيقًا في وصفِ الواقع، بارعًا في تصويرِ الخيالِ الذي يتجاوزُه ويبيِّنُ عجزَه والتناقُضاتِ الكامنةَ فيه. وبفضْلِ هذهِ القُدْراتِ الاستثنائيَّةِ نجحَ ديكنز وشقَّ طريقَه نحْوَ الشُّهرةِ منذُ صِغَرِه، وهو ما بَدا جليًّا في أولِ أعمالِه «مذكرات بكوِك» التي كتبَها وهو في الرابعةِ والعشرِينَ من عُمْره؛ فقد حقَّقَتْ هذه الروايةُ نجاحًا كبيرًا بينَ العامَّةِ والنقَّادِ على السَّواء، ثم تَوالَتْ أعمالُه اللامعةُ بعدَ ذلكَ مثل: «أوليفر تويست» و«ديفيد كوبرفيلد». هذه العبقريةُ الروائيةُ والأدبيةُ جعلَتْ «كارل ماركس» يصِفُه بأنَّه الكاتبُ الإنجليزيُّ الأكثرُ قُدْرةً على كشفِ التفاوُتِ الطبقيِّ في مَجْتمعِه؛ حيثُ تُفصِحُ رِواياتُ «ديكنز» باقتدارٍ عَنِ التناقُضاتِ الاجتماعيةِ الحادَّةِ التي كانت موجودةً في المجتمعِ الفيكتوري، وبخاصَّةٍ صراعُ الفردِ مع النظامِ الاجتماعيِّ والأخلاقيِّ المُستَبدِّ والفاسِد. تُوفِّيَ هذا الأديبُ العظيمُ عامَ ١٨٧٠م.