شَهِدَتِ القَارَّةُ الأمِيركِيةُ حُمَّى البَحْثِ عَنِ الذَّهبِ والفِضَّةِ فِي القَرنِ السَّابِعَ عَشَرَ، واجْتاحَتِ النُّفُوسَ رَغَباتٌ جَمَّةٌ لاستِكشَافِ تِلكَ البِقَاعِ العَذراءِ مِنَ الأَرض؛ فانكَبَّ الرَّحَّالةُ مِن كُلِّ حَدَبٍ وصَوبٍ يُحاوِلونَ الوُصولَ إِليْها ويُسجِّلونَ مُشاهَداتِهمُ القَيِّمةَ عَنها. كانَ مِن بَينِهم «إلياس حنَّا الموصلي» الذي حَقَّقَ السَّبقَ العَربِيَّ فِي ذَلك؛ فَفِي رِحلَةٍ استَمرَّتْ لعَشْرِ سَنَوات، سَجَّلَ أَقدَمَ نَصٍّ عَربِيٍّ عَن أَمِيركا الوُسْطى والجَنُوبِية، ممَّا يُعتَدُّ به كَوثِيقةٍ فَرِيدةٍ مِن نَوعِها عَن حَضارةِ «المايا» و«الإنكا» وغَيرِهِم مِنَ الأَعراقِ التِي سَكنَتِ القَارَّةَ فِي تِلكَ الحِقْبة، يَحْكِي عَنِ المَصَائرِ الفاجِعةِ التِي تَسبَّبَ بِها النَّهبُ الاستِعمَاريُّ لَهُم، وما كَرَّسهُ ذَلكَ مِنَ الخَوفِ لِمَن بقيَ مِنْهم حَيًّا، مُسْهِبًا فِي تَفاصِيلِ حَيوَاتِهم وبِيئَتِهم فلَكأنَّكَ تَراها رَأيَ العَين، كُلُّ ذَلكَ فِي مَتنٍ أَدبِيٍّ شَائِق، لا يَخلُو مِنَ المُتْعَةِ والفَائِدة.
إلياس حنَّا الموصلي: قِسيسٌ ورحَّالة عراقي شهير، كان أولَ عربيٍّ يصل إلى القارة الأمريكية في القرن السابع عشر، وأولَ مَن سجَّلَ مشاهداتِه عنها في سِفر قَيِّم ذاع به صِيتُه حتى يومنا هذا. ينحدر الخوري «إلياس بن حنَّا الموصلي الكلداني» من عائلة «عمودة» ﺑ «بغداد»، وقد بحث المحقِّقون عن أيِّ إشارةٍ لتاريخ ولادته أو وفاته، لكنَّهم لم يجدوا في الكتب المخطوطة أو المطبوعة ما يُشير إلى ذلك، إنما يُعلَم عن عائلته ما كان لها من شأنٍ مرموق، ودورٍ مهم في الحياة الدينية والاجتماعية ما بين «الموصل» و«حلب» في القرن السابع عشر، إلا أن رحلة «إلياس الموصلي» من بغداد إلى القارة الأمريكية في الفترة ما بين ١٦٦٨–١٦٨٣م هي أكثرُ أحداثِ عائلته شهرةً ومساهَمةً في التأريخ والتوثيق لتلك الحِقبة ولاسم العائلة. وتعود أهمية اليوميات التي سجَّلَها الموصلي في رحلته إلى تَفرُّديَّتِها؛ فمادتُها لا تُقارَن بأي مادة أخرى لرحَّالةٍ جاء بعده؛ لكونها المخطوطةَ الوحيدة التي وُجدت حتى يومنا هذا مكتوبةً بالعربية عن القارة الأمريكية في تلك الحِقبة، ولأنَّ الرحلات التي أعقبَتها إلى تلك البقعة تمَّت بعد أكثرَ من قرنَين من تحقُّقها، فكانت «أمريكا» قد تأسَّستْ قارَّةً، وتغيَّرت كثيرًا عمَّا كانت عليه في زمنِ تَجوال «الموصلي». شملَت هذه الرحلة تركيزًا على رجال الدين الكاثوليكيِّين ورؤساء محاكم التفتيش الإسبان، وحُكام المدن والبلدان الذين حمَل إليهم «الموصلي» توصياتٍ من أصدقائه، إضافةً إلى الخدمات الدينية كإقامة القداديس والتبشير، ولم يَغفُل في رحلته عن وصف المُدن والطُّرق والقصور والجبال والأنهار وكل ما وقعَت عليه عيناه، كما ذكر الناسَ الذين الْتَقاهم، مُشِيرًا إلى طُرق معيشتهم وطبائعهم، إضافةً إلى اهتمامه بوصفِ بعض الحيوانات والطيور والنباتات التي رآها، والإشارةِ إلى الهدايا التي كان يحملها معه. وفي عام ١٦٨٣م، وبعد انتهاء تلك الرحلة، كان يَنوي العودةَ إلى «بغداد» عبر «الفلبين»، إلَّا أنَّ عائقًا حالَ دون ذلك، فاستقلَّ من «كوبا» سفينةً إلى «إسبانيا» ثم «روما»، حامِلًا معه هدايا إلى البابا «أنوسنت الحادي عشر»، وبقي هناك مدةً ليَحضُر حفلَ تنصيب البابا «أنوسنت الثاني عشر»، الذي منحه ألقابًا عدة، منها: حامل صليب مار بطرس وكونت بالاتينو، وكاهن كنيسة ملك إسبانيا، فضلًا عن إشرافه على كنيسة بغداد الكاثوليكية. ويُرجَّح أنه مات ودُفِنَ في روما، وبرهان ذلك وجود كتابٍ للصلاة باللغة العربية مطبوع في «روما» عامَ ١٦٩٢م، يحمل إشارةً إلى «الموصلي» بصفته الشخصَ الذي أنفَق على طباعته.