هذا الكِتابُ هو عينٌ على الحضارةِ الإسلاميةِ في القرنِ الثاني الهجريِّ إبَّانَ حُكمِ «هارون الرشيد»، والمؤلِّفُ لا يَسرُدُ لنا فِيهِ وقائعَ وأخبارًا جافَّة، وإنِّما يَضعُنا في قلبِ الأحداثِ لِنَرى ونَسمَع، وذلكَ مِن خلالِ عشْرِ رسائلَ يُرسِلُها إلينا رَحَّالةٌ فارسيٌّ جابَ أنحاءَ الدولةِ الإسلاميةِ آنَذَاك؛ فزارَ بغدادَ عاصمةَ الخِلافة، وأقامَ هناكَ واصِفًا ما كانَ يَدورُ فيها مِن مَجالِسِ العِلمِ والأدبِ والفُنون، وما كانَ يَجرِي في قصورِ الخُلفاءِ مِن صِراعٍ خَفِيٍّ بينَهُم وبينَ وُزَرائِهِمُ البَرَامِكة. ثُمَّ غادَرَ الرَّحَّالةُ إلى الشَّام، ومِنها إلى تونسَ والقَيْروان، ثُمَّ الإسكندرية، ولمَّا آنَ أوانُ الحَجِّ اتَّجهَ إلى بلادِ الحِجاز، ثُمَّ عادَ إلى «دار السلام» مِن جديد. والرِّحلةُ وإنْ كانَتْ مُتخيَّلةً مِن إبداعِ مُؤلِّفِها، فإنها تَستقِي جُلَّ معلوماتِها مِن كُتبِ التُّراثِ الموثوقِ فيها، وتُخرِجُها إخراجًا أدبيًّا بَديعًا وماتِعًا.
جميل نخلة المدور: أديبٌ ومؤرِّخ، اشتُهِر بتأليف كتابَيْه الشهيرين: «حضارة الإسلام في دار السلام» و«تاريخ بابل وآشور»، وكان الناقد والأديب «إبراهيم اليازجي» يُصحِّح له ما يكتبه. وُلِد جميل نخلة المدوَّر ببيروت عامَ ١٨٦٢م لأُسرةٍ معروفةٍ بفضلها وأدب أصحابها، وقد عاش المدوَّر معظمَ حياته في مصر، وكان مُولَعًا بالتنقيب في آداب العرب وتاريخ الأمم الشرقية القديمة، فصنَّف في حداثته «تاريخ بابل وآشور». وكان مُلِمًّا إلمامًا جيِّدًا باللغة الفَرنسية؛ فعرَّبَ كتابَ التاريخ القديم وقصة «أتلا» للكاتب الفَرنسي «شاتوبريان» عامَ ١٨٨٢م، وكان يبلغ حينَها حوالي عشرين عامًا. ومع سعةِ اطِّلاع المدوَّر على الأدب الفَرنسيِّ أثارَ إعجابَه كتابُ «رحلة الشاب أنا شرسيس»؛ وهي رحلةٌ تَخيَّلها كاتبها الراهب «بارتيلمي»، وقام بها المَدعُوُّ «أنا شرسيس» في اليونان قبل موت الإسكندر الأكبر ببضع سنوات. وقد نَقلَ ذلك الرحَّالةُ ملحوظاتِه عن جميع الجهات التي زارها؛ من عادات أهلها وحياتهم الاجتماعية وطبيعة حكومتهم. وقدَّمَ له المؤلِّف بمقدِّمةٍ تشمل كلَّ ما يمكن أن يُعرَف عن اليونان من تقاليدَ وفنونٍ وحروب، من العصور الغابرة إلى عصر فيليب المقدوني والد الإسكندر الأكبر. وقد استغرق ذلك الكتابُ ثلاثين عامًا من البحث والتأليف، وظهر في العام نفسه الذي اندلعَتْ فيه الثورة الفَرنسية. أثَّرَتِ الروايةُ الفَرنسية في المدوَّر تأثيرًا عميقًا لأسلوبها الرفيع وموضوعها الطريف؛ ممَّا جعله يقتبس عنها الفكرةَ نفْسَها، ويستخدمها ببراعةٍ ليكشف لنا عن عصرٍ من عصور التاريخ الإسلامي المزدهرة، مُنتهِجًا في ذلك مِنْهاجَ الكاتب الفَرنسي المذكور. وإذا كان «بارتيلمي» قد اختار لكتابه عصرَ الإسكندر الأكبر، فالمدوَّر اختارَ كذلك عصرًا مُشرِقًا من عصور الإسلام، وهو عصر الخليفة هارون الرشيد؛ حيث كانت بغداد (دار السلام) هي عاصمة الخلافة ومنارة الحضارة. تُوفِّي جميل نخلة المدوَّر بالقاهرة، في يناير عامَ ١٩٠٧م.