«في مساء اليوم التالي لم يَبقَ في الدار أحدٌ غير أهلها، وقد كُوِّم أثاثُ حجرة الراحل في ركنٍ منها وأُغلق بابها. واجتمع الأبناء حول أمِّهم وهم يشعرون بأنه آنَ لهم أن يسمعوا لها. وكانت الأمُّ تعلم بأنه ينبغي لها أن تَتكلَّم، ولم يختلط عليها الأمرُ فيما يجب قولُه؛ فقد كانت فكَّرَت فأطالت التفكير، ولعله لم يكن يُحيِّرها شيءٌ مثل هذا التناقض بين ظاهرِها الدالِّ على الحزم والقوة، وباطنِها الذي يَندى رحمةً وعطفًا على أسرتها البائسة. وخفَضَت عينَيها مُتحاميةً النظراتِ المصوَّبةَ نحوها وقالت: مصيبتُنا فادحة، ليس لنا إلا الله، والله لا ينسى عبادَه.»قد يكون الفقرُ قاتلًا بلا رحمة؛ قاتلًا للحياة، وللأمل، وللطموح، وللشرف؛ وهكذا بدأَت مأساةُ أسرة «كامل أفندي علي» وانتهَت؛ بدأت بالموت المفاجئ للأب عائلِ الأسرة، الذي كان يحفظ لها قدرًا يسيرًا من الحياة الكريمة، فيُنهي موتُه هذه الحياة، وتبدأ حياةٌ جديدة عِمادُها الفقر، وسبيلُها الخطيئة، وابنتُها الأنانية؛ فقد عصَفَت الظروفُ الاقتصادية والاجتماعية القاسية للمجتمع المصري خلال الحرب العالمية الثانية بالأسرة المُكوَّنة من ابنةٍ واحدة، وثلاثةِ أبناء وأُم، فتلجأ الابنة «نفيسة» إلى الخياطة ثم تتَّجه إلى الخطيئة، ويلجأ الابن الأكبر «حسن» إلى الجريمة والبلطجة، بينما يُضحِّي الابن الأوسط «حسين» بطموحه في التعليم العالي ودراسة الطب ليعملَ موظفًا متواضِعًا، أما الابن الأصغر «حسنين» فكان أملَ الأسرة في النجاح، واستطاع بمساعدة إخوته أن يدخل الكليةَ الحربية، ولكن الأنانية تغلبه، فيرى إخوتَه عارًا عليه.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.