«بائع اليانصيب علَّق أوراقَه على الحائط. يُخرِج أبي ورقتَين من جيبه ونظارةَ القراءة. يقارن أرقامَهما بدفاتر البائع. يكمش الورقتَين ويُلقي بهما في الطريق. يشتري ورقتَين جديدتَين؛ واحدة باللون الأزرق، والثانية بالأحمر.صفٌّ من باعة الأشياء القديمة وماسحي الأحذية. كوم من النظَّارات القديمة فوق جريدةٍ على الأرض. البائع يرتدي نظارةً طبية مكسورةً من المنتصف وملحومةً بقطعةٍ بارزةٍ من الصفيح.»تُطالِعك الرواية بالكثير من التفاصيل الدقيقة للحارة المصرية عامَ ١٩٤٨م، من خلال عيونِ طفلٍ صغير يبلغ من العمر تسعَ سنوات، يَتجوَّل دائمًا مُمسِكًا يدَ أبيه؛ الرجلِ الكبير الذي تَجاوَز الخامسةَ والستين من عمره، وكأنك أمام أحد الأفلام المصرية القديمة التي صُوِّرت في الحارة المصرية في تلك الفترة. مشاهد فوتوغرافية كثيرة برع «صنع الله إبراهيم» في وصفها بدقةٍ بالغة، مع سردٍ للكثير من الأحاديث التي كانت تَتناقَلها ألسنةُ الناس آنذاك، والتي تَتعلَّق بالشأن السياسي، وقيام دولة إسرائيل، ونزوات الملك «فاروق»، وتَندُّر العامة عليه، وصعود الإخوان المسلمين، والحديث عن الغلاء، والأوضاع الاقتصادية، وغير ذلك من الأحاديث التي كانت تَمُوج في الشارع المصري آنذاك. روايةٌ خفيفة ومُمتِعة تَسرد تفاصيلَ الحياة اليومية المصرية التي اندثرَت الآن، لكن «صنع الله» يُعيد إحياءَها ببراعته المعتادة.
صنع الله إبراهيم: روائيٌّ مصري يساري، يُغرِّد خارج السِّرب، سُجن في عصر «جمال عبد الناصر»، وبالرغم من ذلك يُقدِّر التجرِبة الناصرية، رفض استلامَ جائزةٍ من الدولة المصرية، وسخَّر مشوارَه الأدبي في الحديث عن هموم الوطن. وُلد «صنع الله» في القاهرة عام ١٩٣٧م، وكان لوالده أثرٌ كبير على شخصيته؛ فقد زوَّده بالكتب والقصص وحثَّه على الاطِّلاع، فبدأت شخصيتُه الأدبية في التكوين منذ الصِّغَر. درس الحقوق، لكنه سرعان ما انصرف عنها إلى الصحافة والسياسة. انتمى للمُنظَّمة الشيوعية المصرية «حدتو»، فاعتُقِل عام ١٩٥٩م ضمن الحملة التي شنَّها «جمال عبد الناصر» على اليساريِّين المصريِّين، وقبع في السجن خمسَ سنوات حتى عام ١٩٦٤م. بعد خروجه من السجن اشتغل في الصحافة لدى وكالة الأنباء المصرية عام ١٩٦٧م، ثم عمل لدى وكالة الأنباء الألمانية في برلين الشرقية عام ١٩٦٨م، حتى عام ١٩٧١م، وبعدها اتَّجه إلى موسكو لدراسة التصوير السينمائي، والعمل على صناعة الأفلام. ثم عاد إلى القاهرة عام ١٩٧٤م في عهد الرئيس «السادات»، وتَفرَّغ للكتابة الحُرة كليًّا عام ١٩٧٥م. تَميَّز إنتاج «صنع الله إبراهيم» الأدبي بالتوثيق التاريخي، والتركيزِ على الأوضاع السياسية في مصر والعالَم العربي، فضلًا عن سرده الكثيرَ من حياته الشخصية. ومن أشهر أعماله: رواية «شرف» التي تحتلُّ المرتبةَ الثالثة ضمن أفضل مائة رواية عربية، و«اللجنة»، و«ذات»، و«الجليد»، و«نجمة أغسطس»، و«بيروت بيروت»، و«النيل مآسي»، و«وردة»، و«العمامة والقبعة»، و«أمريكانلي»، وغيرها من الأعمال الأدبية التي تحظى بمكانة متميزة في عالَم الأدب. أُثِير حولَه الكثيرُ من الجدل بسبب رفضِه استلامَ «جائزة الرواية العربية» التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة، عام ٢٠٠٣م. نال العديدَ من الجوائز العربية المهمة، مثل «جائزة ابن رشد للفكر الحر» عام ٢٠٠٤م، و«جائزة كفافيس للأدب» عام ٢٠١٧م.