وَحْده الأدبُ المتفرد قادرٌ على أن يَعبُر حاجزَ الزمن ليمسَّ روحك، ولو كان بينك وبينه مئاتُ السنين، نوع خاص من الانبهار يُصيبك حين تدرك أن هموم الناس واحدة باختلاف العصور، وأن ميراث الإنسانية من الألم، والفخر، والعتاب، والغزل، كان — ولا يزال — كما هو، يتفنَّن الجميع من شعراء وأدباء ورُواة في التعبير عنه وإبرازه، ليظل — في صورته المكتوبة تلك — أداةً للتواصل بين البشر، وإنْ واراهم الثَّرى. هكذا نجح «أبو فراس الحمداني» بديوانه هذا في تعزيز هذه المنظومة الإنسانية الخالدة، بقريحته الحاضرة وسَهلِه الممتنع، وامتطائه القوافيَ دون تكلُّف ودون إخلال بقوة التعبير وصِدقه، فنَظمَ الشعر وكأنه حديث عادي يصل إليك بسلاسة، وعبَّر بلسان حالك وكأن الزمان لم يمضِ منذ عصره العباسي حتى الآن. أشهرُ ما قال «أبو فراس الحمداني» الرومياتُ الشهيرة التي كتبها خلال أَسْره؛ فَخْره ومديحه، غزله وعشقه وإنسانياته، جمَعها الديوانُ الذي بين أيدينا ليُخلدها في الوِجدان العربي.
أبو فراس الحمداني: هو شاعر وقائد عسكري وأمير بالدولة الحمدانية، عاصَر «المتنبي» ونافَسه في بلاط «سيف الدولة». وُلد «أبو فراس الحارث بن حمدون الحمداني» في منبج بسوريا عام ٣٢١ﻫ/٩٣٣م، وقيل بالموصل شماليَّ العراق، وتَيتَّم وهو في الثالثة من عمره، فنشأ في رعاية ابن عمه «سيف الدولة»، فقرَّبه إليه حين رأى منه نبوغًا في شعره وقوةً وحُسن تخطيطٍ في المعارك. كان «أبو فراس الحمداني» أحد أهم مُجالِسي «سيف الدولة» في مجلسه الخاص الذي كان يُدعى إليه الشعراء، وكان يُجزل له العطاءَ حتى منحه ضَيْعة في منبج، بالإضافة إلى توليته عليها وهو في السادسة عشرة من عمره. جمع نَظمُ «أبي فراس» كلَّ ألوان الشعر، فكان فيه الغزل والفخر والرثاء والوصف والحِكم، وكان أعظمها «الروميات» التي نظَمها وهو في الأَسر، فأخرج فيها عميقَ مشاعره وأصدق أقواله. حافَظ «أبو فراس الحمداني» على ممارسة هواية الصيد وعقد مجالس الشعر والأدب، وكانت له انتصاراتٌ عديدة على جيش الروم، وأُسر عدة مرات فدَاه فيها «سيف الدولة»، كان آخرها وهو عائد من إحدى رحلات الصيد، فجُرح وأُسر، وراسَل «سيف الدولة» أكثر من مرة حتى جفاه «سيف الدولة» بسبب وشاية بعض المقرَّبين منه، فطال الأَسر لأربع سنوات، فأرسل إليه قصيدته المشهورة: «أراك عصيَّ الدمع شِيمتُك الصبر»، وكان لهذه المدة من الأَسر أثرُها الكبير في صَقل موهبة «أبي فراس» وتهذيب وِجدانه الذي أخرج لنا «الروميات» (نسبةً إلى اسم السجن). وبعد خروجه من الأَسر تولَّى حمص حتى وفاة «سيف الدولة» عام ٣٥٦ﻫ، فأصبح حاجبُ «سيف الدولة» وصيًّا على ابنه «أبي المعالي»، فوشى الحاجب ﺑ «أبي فراس»، فسيَّر إليه «أبو المعالي» جيشًا أرداه قتيلًا وقطع رأسه عام ٣٥٧ﻫ/٩٦٨م.