تُرَاها تُفنِي الشَّبابَ كَثرةُ الأَحْزان؟ ربَّما! وربَّما يَفنَى الشاعرُ الجسدُ ويَخلُدُ الشاعرُ القَصِيد، وهي حالُ صاحِبِ هذا الدِّيوان؛ «عزيز فهمي» الذي تَنبَّأَ شيطانُ شِعرِه في قَصِيدتِه «يا قارئ الكف» بمَوتِه غَرَقًا. يَغلِبُ على قَصائِدِ دِيوانِه تَبصُّرٌ بأَلوانِ الحَياة؛ تَبصُّرٌ لا يُدرِكُه إلَّا مَن أَدركَ قِسْطًا وَافرًا مِن حقائقِ الحَياةِ والمَوت، فنَراه يُنشِدُ «يا فتاتي»، و«سبَّحَ القلب»، و«مُناجاة طفل»، ويَرصُدُ «هَمْس الساعة»، ويَصِفُ في «الشاعر» نفسَه بعُلُوِّها وتَسامِيها معَ ما يُثقِلُها مِن شَجَن، وفي «نَذرْتُ نفسي قُرْبانًا لفادِيها» يَتحدَّى برُوحِ الوَطنِيةِ والشِّعرِ ظُلماتِ السِّجْن، وفي «بَنِي وطني أهبتُ بِكُم زَمانًا» يَستنهضُ عَزائمَ الشَّبابِ مِن أَجلِ الوَطَن، وفي غَيرِ ما قَصيدةٍ يَرثِي أبطالَ وأدباءَ عَصرِه، أمثالَ: «عُمر المختار»، و«أحمد شوقي»، و«خليل مطران»، ويَنظمُ أُخرى في حقِّ «طه حسين» الذي أُعجِبَ بشِعرِ «عزيز» أيَّما إعجاب.
عزيز فهمي: شاعر مصري امتازَ بإنتاجٍ شِعريٍّ وفير، حازَ على إعجابِ مُعاصِريه في النصف الأول من القرن العشرين؛ لا سيما عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. وُلِد «عزيز عبد السلام فهمي محمد جمعة» في طنطا عامَ ١٩٠٩م، وكان والده أحدَ قِياديِّي حزب الوفد. تلقَّى «عزيز» تعليمَه الأساسي في مَسقط رأسه، ثم انتقَلَ إلى القاهرة فأكمَلَ دراستَه بمدرسة الجيزة الثانوية، والْتَحقَ بعدَها بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وفي الوقت نفسه انتسب إلى كلية الآداب، فدرَسَ فيهما معًا، وبعدما حصل على ليسانس الحقوق سافرَ إلى فرنسا لدراسة القانون، وهناك حصل على الدكتوراه في القانون من جامعة السوربون عامَ ١٩٣٨م. بعد عودته من فرنسا عمل بالنيابة، غيرَ أنه فُصِل من عمله بعدَ إقالة الحكومة الوفدية عامَ ١٩٤٤م، فاشتغل بالمحاماة، وانتُخِب لعضوية البرلمان المصري عن حزب الوفد عامَ ١٩٥٠م، وكانت له فيه صَولاتٌ وجَولاتٌ أشهَرُها دِفاعُه عن حُرية الصحافة؛ ما أوغَرَ صدْرَ المَلِك عليه، فاعتُقِل بتهمة العيب في الذات المَلكية إبَّانَ الحربِ العالَمية الثانية. وشارَكَ «عزيز» في تحرير الصُّحف والمَجَلات التي كان يُصدِرها حزبُ الوفد، وكان عضوًا في كتائب الفدائيِّين، واشترَكَ في عملياتٍ فِدائيةٍ استهدفَتْ معسكراتِ قواتِ الاحتلالِ الإنجليزي. أمَّا شِعْره فيتنوَّع بينَ قصائدَ طويلةٍ ومتوسطةِ الطول، ويتَّجه إلى رِثاء النفس، والغَزَل العفيف، ومَدِيح أعلام عصره، وبخاصةٍ «طه حسين» و«حافظ إبراهيم»، ورثاء آخَرين، فضلًا عن بُروزِ النَّزْعةِ الوطنية في شِعره واهتمامِه بقضايا الوطن. وله قصائدُ نشرَتْها مَجلاتٌ عِدَّة، منها: «الرسالة»، و«الثقافة»، و«الإرادة»، و«السياسة»، وقد نُشِر معظمُ شِعره في ديوانه «ديوان عزيز» عَقِب وفاته، وقدَّمَ للديوان الدكتور طه حسين، الذي أبدى في كلمته أسًى كبيرًا على الشاعر المُجِيد، الذي تَخطَّفَتْه يدُ المَنُون عاجلًا عامَ ١٩٥٢م في العيَّاط جنوبي القاهرة غَرَقًا في تُرْعةٍ مائية، بعدَ انقلابِ سيارةِ الأجرة التي كان يَستقِلُّها أثناءَ مُحاوَلتِه اللَّحاقَ بقطارِ الصَّعِيد ليتمكَّنَ من التَّرافُع في إحدى القضايا.