لم يَجِدِ الشاعرُ حَرَجًا في تَسميةِ دِيوانِه الأولِ والوَحيدِ باسمِ «كافِر»، قاصِدًا بكُفْرِه ذاكَ مُنْتهى الإيمان. وقد نُسِّقتْ قصائدُ الدِّيوانِ تَنْسيقًا يُلائِمُ حالةَ التساؤُلِ الوُجودِي، فأتَتْ حِواراتٍ شعريَّةً تخاطِبُ عقلَ المتلقِّي ورُوحَه؛ فتارةً يُناقِشُ الشاعِرُ الحقيقةَ الكُبْرى في حوارٍ بينَ القمرِ الطالِعِ وشَهْرزادَ التي تَمَلُّ طُلوعَه وتَرى في التَّنائِي مُضاعَفةً للغَرام، وتَارةً أُخْرى يُناقِشُ عقيدةَ الجهادِ وبذْلِ النفْسِ دِفاعًا عنِ الحريةِ والكَرامة، ويُصوِّرُ تلكَ اللحظةَ التي يُخالِجُ المُحارِبَ فيها اليَأْس. وفي مَحْكمةِ المَلأِ الأَدْنى المَنْصوبةِ بهدفِ مُعاقَبةِ الشاعرِ على كُفْرِه وشَطَحاتِ فِكْرِه، يَصمُدُ مُعارِضًا الحجَّةَ بالحجَّة، لكنَّهم يَنْفونَه إلى الأرضِ فيُسلِّم، عادًّا فَناءَه شَهادة. وفي مُحاوَراتٍ تاليةٍ يُوردُ أمثلةً للكُفْرِ المَشْهود؛ حيثُ يَكفُرُ بالغانيةِ ويُؤمِنُ بالطُّهْر، يَكفُرُ بالتقاليدِ البالِيةِ ويُؤمِنُ برُقيِّ الحِس، يَكفُرُ بالفنِّ بلا رُوحٍ ويُؤمِنُ بالحَياة.
زهير ميرزا: شاعرٌ سوريٌّ، جمَعَ إلى الشعرِ فُنونًا عدَّة، بينَها المُوسيقى والرسْمُ والمَسْرح، وكانَ واسعَ الاطِّلاع، تغلِّفُ قِصائدَه لَمحاتٌ فَلْسفيَّة، فضْلًا عن كوْنِها تَعُجُّ بالألمِ والعِبْرةِ وتَنبضُ بالحِيرةِ والقَلقِ الوُجوديِّ العاصِف. وُلِدَ «محمد زهير بن إبراهيم ميرزا» في دمشق عامَ ١٩٢٢م، وتلقَّى تعليمَه الابتدائيَّ والثانويَّ في مَدارسِ مَدينتِه، ثُم الْتَحقَ بكليةِ الآدابِ بجامعةِ دمشق، وتخرَّجَ فيها بتفوُّقٍ رشَّحَه ليَعملَ مُدرِّسًا لِلُّغةِ العَربيةِ في «ثانوية السويداء»، ثُمَّ في «ثانوية دمشق الأَهْليَّة»، التي استقطبَتْ نُخْبةً مِنَ المُعلِّمِينَ وقتذئذٍ. كما عملَ مدةً بالإذاعةِ السُّوريَّة، وبُعِثَ للتدريسِ في السُّعوديَّة، ثُم اختيرَ مُشرِفًا على البعثةِ العِلْميةِ السُّعوديةِ لسُوريا ولبنان. كانَ ميرزا شاعرًا مُجيدًا، وعَرفَتِ القصيدةُ عندَه النَّسقَ الحِواري، فتَتعدَّدُ الأَصْوات، ويُسيطرُ السَّرْدُ المَنْظوم، وتَتنوَّعُ القَوافي بما يُناسِبُ تعدُّدَ الأَنْساق. وقد نُشِرَ له دِيوانٌ شِعْريٌّ وحيدٌ بعنوانِ «كافِر»، إلى جانِبِ قَصائدَ مُفرَّقةٍ نُشِرتْ بالصُّحفِ والمَجلَّات، بينَها قَصِيدةُ «حَسْرة» في رِثاءِ نفْسِه، وكذلك عددٌ مِنَ القَصائدِ المَخْطوطةِ في حَوْزةِ أسرتِه، يُضافُ إليها ثَلاثُ مَسْرحيات، هي: «وَحْي النَّفْس» و«المُجرِم» و«العَدالة»، وقِصةٌ بعُنوان: «الفَضِيلة العَربيَّة» (نَثْرٌ شِعْري)، و«صَفْحة من حَياةِ قيس وليلى». وقد أجادَ ميرزا اللُّغتَيْنِ الإنجليزيةَ والفرنسيةَ إجادةً تامَّة؛ ما أتاحَ له تَرْجمةَ العديدِ مِنَ الأعمالِ القصصيَّةِ الفرنسيةِ إلى العَربية، وترجَمَ كذلك عَنِ الإنجليزيةِ مَقالاتٍ في الفلسفةِ والأدبِ والتَّراجِمِ والفُنون، أخذتْ طريقَها للنشرِ في صُحفِ ومَجلَّاتِ دمشق آنَذَاك. وكانَ ميرزا مُعجَبًا أشدَّ الإعجابِ بالشاعرِ «إيليا أبي ماضي»، فتفرَّغَ سنواتٍ لجمْعِ أشعارِه في مجلدٍ واحِد، تحتَ اسم: «إيليا أبو ماضي شاعِرُ المَهْجرِ الأَكْبر»، وقد صدَّرَ ذلك الديوانَ الصادرَ عامَ ١٩٥٤م بدراسةٍ نقديةٍ مُستفيضةٍ عن «إيليا» وسِماتِ شِعْرِه، اعتُبِرتْ أوسعَ ما صدَرَ عن ذلك الشاعِرِ المَهْجريِّ حتى ذلك الحِين. تُوفِّيَ زهير ميرزا في الثالثةِ والثلاثينَ من عُمْرِه في حادثِ احتراقِ طائرةٍ سُورية، كانتْ مُنطلِقةً في رحلةٍ داخليَّةٍ من دمشق إلى حَلب التي كانَ يَقصدُها بُغْيةَ تَعزيةِ أحدِ أصدقائِه، وذلك في فبراير عامَ ١٩٥٦م.