فتاة البرتقال

الحب والوجود

كان والد جورج يعمل طبيبا وقد توفي وهو شاب، وعندما علم بمرضه بدأ يكتب رسالة لابنه خبأها في أحد ألعابه لعله يعثر عليها فيما بعد، وقد أوصى مؤكدا قبل وفاته بالاحتفاظ بعربة كبيرة كان قد اشتراها لابنه. وبعد 11 عاما وجد جد جورج وجدته مغلفا مغلقا في العربة، وعليه إشارة بأنه يحتوي على رسالة خاصة لابنه، وينكب جورج على الأوراق يقرؤها، وحين ينتهي من قراءتها تنتهي الرواية أيضا.

يقابل جون أولاف عندما كان طالبا في السنة الأولى يدرس الطب في الجامعة فتاة في مثل سنه في القطار، وكانت تحمل كيسا ورقيا مليئا بالبرتقال، ويقع في حب الفتاة من النظرة الأولى، ويلاحظ أنها تبادله نظرات عميقة، وتنشأ قصة حب تختزل قصة الكون والحياة والوجود. 

يبدأ والد جورج بالتفتيش عن الفتاة التي لا يعرف عنها سوى أنها قابلته في القطار وهي تحمل كيسا من البرتقال. ويتوقع أنها تذهب إلى سوق الفواكه وإلى المحلات التي تبيع الفواكه بأكياس ورقية، فيلتقيان في اليوم التالي مرة أخرى في مقهى ويتبادلان كلمات قليلة ثم تختفي، ويلتقيان مرة ثالثة ليلة عيد الميلاد فيعبر لها عن حبه فتطلب منه أن ينتظرها ستة أشهر، ولكنه لا يطيق الانتظار.

وتأتيه رسالة من فتاة البرتقال تحتوي على عنوان بيته وباسمه، فيتساءل كيف عرفته الفتاة وعرفت عنوانه وهما لم يلتقيا سوى ثلاث مرات دون أن يتبادلا سوى بضع كلمات.

الرسالة كانت قادمة من إشبيلية، فيقرر والد جورج أن يسافر من النرويج إلى إشبيلية ليقابلها، ويخبر والديه أنه سيسافر ليتزوج من الفتاة التي قابلها مصادفة، ويقرضانه مبلغا من المال ويسافر، ويتبع السياح إلى حديقة جميلة قديمة، ويقرر أن ينتظر فيها لعله يقابل فتاته هناك، وتأتي الفتاة بالفعل ليجد أنها تعرفه منذ زمن بعيد وأنه يعرفها أيضا، فقد كانا صديقا طفولة قبل أن يفترقا في المرحلة الإعدادية، وتبقى الفتاة تتابعه حتى تعرفت إلى عنوانه، ثم زارت والديه في غيابه فيتذكرانها هما أيضا، وتخبرهما أنها ذاهبة إلى إسبانيا لدراسة الفنون الجميلة، وهذا ما جعلهما يبديان موافقة على سفره إلى إسبانيا لمقابلة الفتاة. 

وفي أثناء الرسالة وأحداثها تبدو أسئلة ومقارنات كثيرة بين الكون الواسع والأسرة الصغيرة وكأنهما عالمان متشابهان أو لعلهما عالم واحد، كيف نشأ الكون ونشأت الحياة عليه، ولا يلبث الكون يتمدد حتى يصل إلى لحظة الانفجار، وهكذا الأسرة تنشأ ويولد الأطفال ثم يموت الناس، فبعد مولد جورج بفترة قصيرة يمرض والده بمرض خطير يؤدي إلى وفاته، كيف كان الشاب والفتاة في عالم مستقل بكل منهما ثم اتحدا معا وصارا كيانا واحدا، ونشأ عن اتحادهما حياة جديدة ثم انفصلا بالموت.

وفي الكون مشاهد كثيرة تعبر عن الحياة وألغازها وأسرارها كالليل والنهار وتعاقبهما، وشروق الشمس وغروبها، والقمر الذي يبدأ هلالا ثم يكبر بالتدريج حتى يكتمل بدرا، ثم يتضاءل حتى يعود هلالا ويختفي مختتما شهرا في دورة حياته ليولد من جديد.

وكيف تنشأ المعرفة والأسئلة ثم تتكون أفكار وملاحظات واستنتاجات كثيرة معقدة ترجح بعضها وتستبعد بعضها الآخر، وكيف بدأت عملية بحث عن فتاة تحمل كيس برتقال وكفى، ولكن البحث يوصل إليها، والمعرفة في الكون والفلسفة والحياة تقود إلى أعمق المعارف والاكتشافات التي تغير الحياة وتطورها وتنفع الناس، فكل الإنجازات الحضارية والعلمية بدأت بأسئلة أولية ومعلومات متاحة، وأجمل الروايات وأهم الكتب بدأت بأفكار عادية، واستخدم فيها ما يعرفه الناس جميعا. 

  ”كل شيء قد يكون في هذا العالم جميلا، بل أحيانا أجمل من أن تتصور أن أياما جديدة ستكف عن رؤية النور يوما"

الحياة والزمن

حين كتب والد جورج هذه الرسالة "الرواية" كان جورج طفلا صغيرا عمره أقل من أربع سنوات بأشهر قليلة، وسيكون كما يتصور والده عندما يقرأ الرسالة ويكون هو قد رحل عن الحياة فتى عمره 15 عاما، فما هو الزمن الذي يغير الناس ويبدلهم ويمضي بهم إلى الفناء؟ أليس أمرا غريبا يراه الناس كل يوم ولا يلتفتون إليه شأن معظم الأشياء الكبيرة والمهمة؟
يسأل جون ولده عن المنظار المداري (هابل سبايس تلسكوب)، ويتعجب الفتى في نفسه كيف اتفق السؤال الذي كتبه أبوه قبل 11 عاما مع كونه قد أنهى قبل أيام قليلة بحثا في هذا الموضوع، وكان المنظار الفلكي قد وضع في مداره حول الأرض بواسطة المكوك الفضائي "ديسكفري" عام 1990، وهي الفترة التي كان جون فيها مريضا، وكان العلماء قد اكتشفوا عيبا في المرآة الرئيسية للمنظار، ولم يتح لجون أن يعرف أنه جرى إصلاحه عام 1993 أي بعد وفاته بثلاث سنوات، وبطبيعة الحال فلم يعرف أنه زود بتجهيزات علمية إضافية عام 1997. 

وقد أتاحت الصور التي التقطها هذا المنظار معرفة إضافية للناس والعلماء عن الكون، واكتشاف مجرات جديدة لم تكن معروفة، مثل نجمة إيتا كاريناي العملاقة التي تبعد عن المجموعة الشمسية ثمانية آلاف سنة ضوئية، والتقط صورا عن مجرات وسدم تفصل عن مجرتنا درب التبانة ملايين السنوات الضوئية، وهي معارف تتيح النظر في أعماق الزمن.

فهذا الضوء الذي نراه أو نعرف عنه ووصلنا اليوم إنما يعود إلى آلاف أو ملايين السنوات الضوئية، ولن يصل الضوء الصادر اليوم إلا بعد آلاف أو ملايين السنوات الضوئية. والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء الذي يسير بسرعة 300 ألف كلم/ثانية في سنة واحدة، فهي تقيس المسافة وليس الزمن وإن كانت هي زمنا أو تقيس الزمن. وقد صور هابل مجرات يزيد عمرها عن 12 مليار سنة ضوئية، ويعني بذلك أنه تطلع وأتاح لنا النظر لأكثر من 12 مليار عام إلى الوراء في تاريخ الكون، إنه لأمر أشبه بالجنون، فيه لحظات تقترب من لحظة ميلاد الكون وميلاد الزمان أيضا.

لقد نشأ الكون قبل 15 مليار عام ولا أحد يعرف كيف نشأ، والناس جميعا يكررون مغامرة الكون الفريدة في نشأتهم وحياتهم وفنائهم، ولو أنك -يخاطب الأب الميت ابنه- شهدت قبل ملايين السنين بداية الأشياء حينها تستطيع أن تقرر إن كنت ترغب في الخروج يوما للحياة على هذه الأرض، ولن تعرف ساعتها متى ستعيش، وكم سيطول بقاؤك، وإن بقيت فلن تبقى إلا زمنا محدودا، ولن تعرف أكثر من أنك إذا اخترت المجيء إلى هذا العالم يوما عندما يحين الوقت أو كما يقال عندما يكتمل الزمان فإنك لا محالة ستغادر ذلك العالم وتترك كل شيء فيه، وسيحزنك ذلك كثيرا لأن الحياة في أعين الكثيرين أسطورة عجيبة لا يكادون يصدقون زوالها يوما حتى تمتلئ عيونهم حزنا ودموعا. كل شيء قد يكون في هذا العالم جميلا بل أحيانا أجمل من أن تتصور أن أياما جديدة ستكف عن رؤية النور يوما. 

  ”إن قناعتي كاملة بأنني لن أكون، لأن العالم منذ أن يصير عالما لا يدع للحدود الوهمية مجالا، فإنني مشبع إلى حد الذهول بحقيقة هذا الوجود، ولن يصيبني مزيد من الذهول لو اكتشفت وجودا آخر بعد هذا الوجود"
 
الموت

"ليس لك الخيار إن اخترت الحياة إلا أن تختار الموت أيضا، ولكننا لا نجيء إلى الحياة باختيارنا، ثم نحضر أبناءنا إليها دون خيارهم، ونحن في ذلك هل نكون مخطئين أم مصيبين؟ إننا نسأل أنفسنا هذا السؤال ولا نعرف رأي أبنائنا فلعلهم يفضلون لو خيروا حياة قصيرة يموتون بعدها على ألا يأتوا إلى الحياة، وهل بعد هذا الوجود من وجود آخر نمضي إليه بعد الموت؟ هل يمكنني الاقتناع بأنني لن أكون في مكان آخر بعدما أموت؟".

هكذا يتساءل الوالد في رسالته إلى ابنه، ويقول لنا المؤلف على لسان الوالد (معطيا لنفسه هذا الحق الذي لا نعرف كيف اكتسبه، ولعله أشبه بوضع اليد كما يجري مثلا اليوم في العراق، عندما يضع الناس يدهم على البيوت والمرافق العامة وحتى الشوارع والطرقات) "إن قناعتي كاملة بأنني لن أكون، لأن العالم منذ أن يصير عالما لا يدع للحدود الوهمية مجالا، فإنني مشبع إلى حد الذهول بحقيقة هذا الوجود، ولن يصيبني مزيد من الذهول لو اكتشفت وجودا آخر بعد هذا الوجود. ترى كيف السبيل لأن نعرف إن كان لأرواحنا لوحة جديدة؟ ولكن الحلم بشيء وهمي يحمل اسما، ذلك الوهم ندعوه أملا، ولكن حتى هذا الكون الواسع والنجوم الجميلة تمضي إلى الفناء". 

ولكن الأسرار لا تتوقف عند الحياة والموت، كيف ينقل الآباء إلى الأبناء خبراتهم ومواهبهم؟ كيف انتقل إلى جورج من أبيه رغبة البحث في الكون وأسراره، وعدم الاهتمام بكرة القدم و"سبايس غيرلز"؟

وبعدما قرأ جورج رسالة والده وتناول العشاء مع أمه وزوجها وجده وجدته بقي وحده ساهرا، ثم خرج ليجلس وحده في الحديقة التي تغمرها الثلوج، وجلس يتطلع إلى النجوم المتلألئة يستعيد ليلة سابقة حدثه والده عنها في الرسالة حين أجلسه قبل وفاته على ركبتيه، ثم ضمه إليه واستغرق في بكاء طويل عميق، وأدرك أنه سيرحل هو الآخر عن هذا الكون وهذه الحياة ويترك خلفه كل شيء، إنه أمر محزن، والتفكير فيه محزن أيضا، ولكنه معرفة جميلة رغم كل ما فيها من ألم، والولادة مصحوبة أيضا بالألم والمغامرة.

لكن لو أتيح لنا الاختيار واخترنا عدم المجيء إلى هذا الكون متعللين بحقائق عن ضآلة ما نحوزه من متع ومعرفة وزمن، وهربا من الحزن والمواجهة مع الموت، فهل سنعرف ما تعلمناه وأدركناه عن الحياة والوجود والكون والحب والشجاعة والألم والسعادة والعطاء والغضب والدهشة؟

فيجيب الفتى أباه: شكرا جزيلا، فقد أغبطتني وأزعجتني على السواء، إنني على يقين بأنني سأختار الحياة على هذه الأرض ولو لوقت قصير، وإنني أنتظر هدية متوقعة، ستكون منظارا أستخدمه في النظر إلى النجوم أكمل به وأواصل ما أقرأه وأتابعه عبر الإنترنت عن المنظار العجيب "هابل" أو عين الكون الذي أتاح لنا رؤية الكون ومعرفة أسرار جديدة لم نكن نعرفها من قبل، وقد وجدت جرأة إضافية للحديث مع فتاة الكمان كما تحدثت أنت أيضا مع فتاة البرتقال.
أخبار عاجلة

#arts

أخبار عاجلة

#arts

فتاة البرتقال

وصفات طبيعية لجعل شعرك أكثر جمالًا

الإيكيغاي: كشف غموض هدف الحياة والإشباع لرحلة ذات معنى

كايزن: السعي المستمر نحو التحسين والتطوير

اتجاهات التغذية والأساطير الغذائية

قوة العادات من كتاب: العادات الذرية

علم نفس المرونة: الازدهار في وجه الصعوبات
